الثقافي

خرفان المولى!

 

بين جنحان الملائكة ثمة قرون شيطانية

أسوأ مزيج هو ذلك الذي يجمع السوقية المنفلتة من كل قيد مع التشدد الأخلاقي والنزوع الطقوسي الأعمى. سوقية لا تحمل ذاكرة نتجرع مرارتها كل يوم، ونصطدم بها في كل زاوية فيما هي تقدم لنا دروسا في الأخلاق والإصلاح والفضيلة، إذ لا ينفك داعية الأخلاق والذي يجسد روحية الخروف يتقيأ أكاذيبه ومزاعمه الأخلاقية، بادعائه ما ليس له، كل مزيج من هذا النوع مقزز ولكن لا يوجد شيء أكثر تقززا من بوهيمي يتباهى بأخلاقه كما لو أصيب بزهايمر يشوش هويته المنفلتة من كل القيم والأخلاق والمثل. الأخلاق لا تليق بالبهيمي، كما لا تليق بلص حماية المعبد.

أصل الأزمة مفارقة تعبر عن نفسها بوضوح وتتمثل في صور عديدة: حوانيت الأخلاق وديكورات النزاهة تغش زبائنها، أقزام أدعياء يتكئون على عمالقة، عدميون يتبجحون بالإيمان، جهلة يتسيدون الحقل الثقافي، ونعاج يقدمون الدروس في الشجاعة، كما لو كان كل شيء يتهافت ويمتزج ويتداخل ويضج بالمفارقة.

وإليكم أخيرا هذه الصورة المدهشة التي يقدمها الكاتب الفرانكفوني الجزائري ياسمينة خضرا في روايته "خرفان المولى" الصادرة ترجمتها عن دار الفارابي 2011: "أسوأ خطأ خرافة مروضة" وهي عبارة جديرة بأن يستهل بها الكاتب روايته، فالخرافة المروضة كمفارقة نتنة تملأ مناخ الرواية، وباعتبارها أمثولة لنرسيس قبيح وأبله معتد بنفسه، تشكل مدخلا صالحا لأسوأ حساء يبتلعه الأصولي ويقتيأه علينا كبشارة.

تعدنا الرواية منذ عنوانها بسياحة شيقة في عوالم هذا المزج وتلك المفارقة التي تجسدها صورة "المتدين السوقي"، "البوهيمي الأخلاقي"، "الخرافة المعقلنة"، ضمن بنية سردية تتوسل لتحليل الواقع الاجتماعي والثقافي المأزوم بمفردات ذات جذر لغوي واحد: الخروف، الخرافة، الخريف. إن الخروف مروض لكن الخرافة سائبة، ترويض الخرافة نتاج أو سبب لتوظيف الدين واستخدامه، أما الخروف فهو أداة التوظيف نفسه، عتلته المحببة، إنه المتكأ الذي يتعكز عليه الخطاب الإسلاموي، وبيدقه الرابح الذي يجابه به الخصم، ويسود به المدينة.

"غاشيمات" وهي المكان الذي اختاره الكاتب مسرحا لأحداث روايته، بلدة نائية معزولة، كانت بلدة مسالمة قبل أن تجتاحها جحافل الخرفان، لتغرق في أنهار من الدم والخراب. الشيخ القادم من أفغانستان أوقظ الغول الراقد في القرية "يتعارف أهلها منذ الطفولة، يعيشون حياتهم البسيطة، يتصارعون من أجل لقمة العيش، يتغايرون، يراقب بعضهم بعضا. يتنافس الشبان بسرية لينالوا حظوة فتاة جميلة. يكرهون الذين نجحوا في تغيير حياتهم، كما يمقتون أولئك الذين بقوا في البؤس. يختنق الجميع تحت تقاليد بالية، ولا يتأثر أهلها بما يحدث بعيدا عنهم في العاصمة. ولكن عودة أحد أبنائها من الأصوليين المتزمتين كانت كافية كي تغرق البلدة في جرائم جماعية، غذتها الأحقاد السابقة الدفينة والضغائن المتعددة، هكذا يتحول رويدا رويدا يتحول فتيان مسالمون هادئون إلى قتلة ينشرون الرعب بين ذويهم".

ما يميز البلدة زمن يكاد لا يتحرك وبساطة تعم كل شيء، وهي لهذا السبب تحديدا تبدو بيئة مثالية لاحتضان الخرافة المروضة، بكل خصائصها الفريدة، كما لو كان الكاتب يستشرف المستقبل القريب، حيث تبدو الجزائر صورة استباقية لربيع عربي ليس سوى خريف أصولي.

يؤرخ الكاتب الذي كان في الأصل ضابطا في الجيش وجد ضالته في الكتابة والورق، لتحول "غاشيمات" إلى مرتع للأصولية والخرفان إلى قتلة، يعيد التاريخ كأي روائي إلى أصله الأسطوري حتى يتمكن من كشف المناطق المعتمة التي يعجز عن كشفها التاريخ، لكي نعرف كيف تنامت الأصولية لتختطف الدين وتتسلل إلى تعريفات الإيمان والأخلاق والفضيلة، الإشكالية هنا تكمن في استحالة الدين إلى مطية، والمتدين إلى خروف لا يجيد إلا التبعية والطاعة لخفافيش الظلام، إن جماعات الجهاد ليست سوى عصابات إجرامية تتلفح بغطاء الدين.

يسعى الكاتب إلى تفكيك هذا المزيج الذي يبلغ ذروته في القبح، مشيرا إلى حقيقة مفادها أنه بين جنحان الملائكة ثمة قرون شيطانية، كما في كل تدين ثمة مساحة لهوس شيطاني، وفجوات وثعور ينبغي أن تردم حتى تعود المدينة هادئة. ليست هذه الفجوات سوى الجهل وشيء من البلاهة التي تميز الخروف "يوجد داخل كل دين من الأديان التي أنزلها الله على عباده قسط خاص من الشيطان، قسط صغير ولكنه كاف لتشويه الرسالة وتزويرها، وجر الغافلين عبر دروب الزيغ والوحشية، إن هذا القسط الصغير هو الجهل.

يقول سعيد صايم: "ثلاثة أشياء لا ينبغي وضعها في يد الجاهل، الثروة يبذرها ويشقى بها، السلطة يتعسف في استخدامها، الدين يضر به نفسه والآخرين".

لكن المزيج يتفاقم حين تتراكم أحقاد بدائية وأحلام عصافير بأحقاد ميتافيزيقية وأحلام استعادة الخلافة، فتتغلب رغبة الانتقام على رغبة العفو والتسامح، في مأثرة واضحة لأخلاقيات الجبان والقزم المتشامخ "كنت أريد أن أصير مثل طائر العقاب. كنت أراقب القرية من أعلى مجثمي، مثلما يراقب الكاسر حصته من الطرائد، في ذلك العمر كنت أعرف أنني ولدت بصبر كاسر، ومهما كانت قوة طريدتي وطول حياتها فسينتهي بها الأمر إلى الموت عند قدمي".

ميدل ايست أونلاين


نذير الماجد

من نفس القسم الثقافي