الثقافي

شعلة غابريال غارسيا ماركيز تنطفئ

صاحب رائعة "مئة عام من العزلة"

 

فقدت الساحة الثقافية العالمية أول أمس، أحد أعلامها ونجومها، برحيل الكاتب الروائي الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز، عن عمر يناهز 87 عاما، لتطوى فصول حياته الحافلة بالمآثر الفكرية والأدبية التي لا تنضب، حيث أفادت صحف مكسيكية بأن الروائي الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز قد توفي في مكسيكو سيتي بعد صراع طويل مع مرض السرطان وأكدت الخبر المتحدثة باسم أسرته فرناندا فاميليار والرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس على حسابيهما على شبكة «تويتر» الاجتماعية.

بداياته كصحفي 

ويعد ماركيز صاحب روايات "مئة عام من العزلة" و"الحب في زمن الكوليرا" و"خريف البطريرك" من أشهر روائيي أمريكا اللاتينية، فهو من مواليد سنة 1927 في مدينة اركاتاكاولد وعاش معظم حياته في المكسيك وأوروبا، عرف في صباه بخجله، كان يكتب قصائد ساخرة ويرسم أشكالا هزلية. ولقب بـ "العجوز" بين زملائه لانه كان جاداً وقليل الاهتمام بالنشاطات الرياضية، كان متيماً بفكرة الكتابة، بعدما تأثر بقصص جدته ترانكيلينا أجواران كوتس التي أطلق عليها اسم الجدة مينا ووصفها بـ"امرأة الخيال والشعوذة"، حيث كانت تملأ المنزل بقصص عن الأشباح والهواجس والطوالع والعلامات، فضلاً عن كونها شكلت مصدر الإلهام الأول والرئيس له، إضافة إلى أسلوبها القصصي، اذ ألهمت الجدة مينا حفيدها شخصية "أورسولا إغواران" التي استخدمها لاحقاً وبعد قرابة ثلاثين عاماً من رواية جدته عن هذه الشخصية، في روايته "مائة عام من العزلة" ولكنها لم تكن من اجل القص التقليدي لحكايات شعبية، على نمط مماثل لقصص جدته، حيث تتداخل الأحداث غير النمطية وغير العادية كما لو كانت مجرد جانب من جوانب الحياة اليومية، بدأ حلمه يكبر في أن يكون كاتباً بعد نشره قصة "الإذعان الثالث" في صحيفة "الإسبكتادور" في 13 سبتمبر من 1947، والتي تعكس تأثره بنتاج فرانتس كافكا، وفي سنة 1950، ترك المحاماة ليتفرغ للصحافة، وعاد من جديد إلى بارانكويلا ليصبح كاتب عمود ومراسلاً لصحيفة "إل هيرالدو"، وصل ماركيز الى قمة النجاح وعرفه الجمهور عندما كان في الأربعين، وكان التغير في حياته جلياً بعد المراسلات بينه وبين محبيه والجوائز والمقابلات التي أجريت معه، وعَمَلَ صحفياً ليتنقل بين بلدان العالم وأهمها روما، وباريس سنة 1960 حيث كان يعاني فقرا مدقعا منعه حتى من قراءة روايته "الاستسلام الثالث"، التي نشرتها صحيفة الاسبيكتادور باعتباره لم يكن يملك خمسة سنتات ثمن الصحيفة، حيث لم يكمن سحر غابرييال غارسيا ماركيز في كتبه فحسب، بل أيضاً في مقالاته وعمله الصحافي وجلساته ومقابلاته الصحافية المتلفزة والمكتوبة التي توثق جميعها نظرة كاتب الى مفاصل الحياة بشكل يختلف عن المألوف، وتنعكس القيمة الأهم لأدب ماركيز في أفقه السرديّ، وفي نظرته البالغة الخصوصية إلى تراكمات الأشياء الغريبة المنسيّة، وحبكها في أسلوب واقعي سلس، يستمد ماركيز قدرته من خبرته في عالم الصحافة، ويرى أن "الصحافة أفضل مهنة في العالم". وتاريخ مسيرته صحافياً لا يقل إبهاراً عن تاريخه روائياً، بل إن تتويجه أديب رواية كان تتويجاً منقوصاً، كما تشير بذلك إشاراته الملحة إلى ماضيه الصحافي. فماركيز يأسف لأنّ الرواية هي التي قدّمته الى العالم حتى صحافياً. وهي المهنة التي عندما تحدث عن مزاولته لها، حرص على أن تكون شهاداته فيها على نفسه شهادات مشرّفة، وحرص على أن يؤرّخ أنه كان صحافياً فذاً ونموذجيّاً.

مسار فني حافل بالنجاحات

وحاز غابريال غارسيا ماركيز على جائزة نوبل للآداب عام 1982 عن روايته «مائة عام من العزلة»، بعدما اعتبرها المؤتمر العالمي الرابع للغة الاسبانية المنعقد في 2007 ثاني أعظم إنجاز أدبي في تاريخ اللغة الإسبانية بعد ملحمة "دون كيخوتي" لسارفانتس، حيث ترجمت إلى نحو 35 لغة وبيع منها أكثر من 50 مليون نسخة في مختلف أنحاء العالم، وفي العام 1969، كما حصل على جائزة "كيانشانو" على نفس الرواية والتي اعُتبرت "أفضل كتاب أجنبي" في فرنسا. وفي العام 1970، نشرت الرواية باللغة الإنكليزية واختيرت كواحدة من أفضل اثني عشر كتاباً في الولايات المتحدة في ذلك العام. وبعد سنتين، حصل على جائزة "رومولو جايجوس" وجائزة "نيوستاد" الدوليتين للأدب، وفي العام 1971 نشر ماريو بارغاس يوسا كتاباً عن حياة ماركيز وأعماله، ولم تقتصر مساهمات ماركيز على الكتب، اذ انتج للمسرح والسينما، كان عمله المسرحي الأول "خطبة لاذعة ضد رجل جالس" انتهى منه في العام 1988 الذي شهد ايضا انتاج فيلم "رجل عجوز جداً بجناحين عظيمين" عن قصته التي تحمل العنوان ذاته، من إخراج فيرناندو بيريري، وإضافة إلى شهرته الواسعة التي اكتسبها من مؤلفاته، ادى موقفه من "الإمبريالية الأميركية" إلى اعتباره "مخرباً" في الولايات المتحدة. ورفضت سلطات الهجرة الأميركية طيلة سنوات منحه تأشيرة دخول، لكنها رفعت الحظر عنه بعد انتخاب بيل كلينتون رئيسا، وأكد كلينتون أن "مائة عام من العزلة" هي روايته المفضلة، ومن أبرز أعماله ايضا رواية «الحب في زمن الكوليرا» لسنة 1985، روايته الصغيرة «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» لسنة 1961، رواية «الجنرال في متاهته»، «خريف البطريرك» 1975، «قصة موت معلن» 1981، وقصصه القصيرة في كتاب اسمه «عن الحب وشياطين أخرى» 1994، رفض عروضا سخية لتحويل رواياته إلى أفلام سينمائية، وقال:" أنا أفضل أن يتخيل قارئ كتابي الشخصيات كما يحلو له، وأن يرسم ملامحها مثلما يريد ليحلق في مخيلته دون قيود، أما عندما يشاهد الرواية على الشاشة فإن الشخصيات ستصبح ذات أشكال محددة هي أشكال الممثلين وكما يود المخرج أن يصورهم، وهي ليست تلك الشخصيات التي يتخيلها المرء أثناء القراءة"، ونشرت كتب ومقالات كثيرة عنه وعن أعماله إلا أن أبرز ما قاله عن جائزة نوبل وفلسطين حمل عنوانا هو: "مناحيم بيغن وأريئيل شارون: لهما جائزة نوبل للموت!"، وقد أحبه القراء العرب انطلاقا من شرارة فوزه بها، لكن الود زاد أكثر بدعمه لقضايا العرب وأولها الحق الفلسطيني رغم كلفة هذا الموقف ورغم أن جائزة نوبل تمنح استنادا لبوصلة السياسة الأمريكية والغربية عموما إلا أنها تضطر للانحناء لمقامات جديرة بها لتحافظ على مصداقيتها كما هو حال الاديبة توني موريسون التي نالت نوبل للآداب وأبحرت لكسر حصار غزة، كلاهما يرسخان لجوائز نوبل سمعتها التي تهتز عندما تمنح لدوافع سياسية.

كتاب وسياسيون عالميون ينعون ماركيز

ونعى وفاة الكاتب الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز، القراء العرب بشدة حيث اشار الكاتب الصحفي خليل صويلح إلى ماركيز بقوله: "إذا كان من أديب عالمي يمكن اعتباره «عربيّاً» بامتياز، فإن هذا الأديب هو غابرييل غارسيا ماركيز. اليوم يبكيه القرّاء العرب قبل سواهم، هو المنتشر عالميّاً على نطاق واسع تجاوز الاسبانيّة لغته الأم، وأميركا اللاتينيّة مسرح شخصياته واحداثه. الكاتب الكولومبي الذي قُرئت أعماله مغرباً ومشرقاً، رحل «غابو»، كما يُكنّى تودداً في دياره، بعد قصّة غريبة مع السرطان الذي تغلّب عليه أكثر من مرّة، وبعد شائعات كثيرة عن موته كان يكذّبها ساخراً. هذه المرّة استسلم صاحب نوبل للملاك الأسود الخارج من «حب في زمن الكوليرا»، هو الذي بدأ صحافيّاً استقصائيّاً، ليصبح «بطريرك» الأدب الأميركي اللاتيني، وأحد روّاد «الواقعيّة السحريّة». تأثّر بقصص جدّته المليئة بالخرافات والجنيّات، وبالسرديّات الواقعيّة لجدّه الكولونيل الليبرالي الذي طبع مزاجه السياسي، فوقف إلى جانب الثورات وحركات التحرر، وتميّز بعدائه للاستعمار الأميركي، وربطته صداقة متينة بفيديل كاسترو"، كما نعاه عالميا كتاب وقادة سياسيون كان الرئيس الأميركي بارك أوباما على راسهم اين عبر عن أسفه إزاء وفاة الأديب الكولومبي، قائلاً إنه أحد كتّابه المفضلين. وقال أوباما في بيان: «بوفاته فقد العالم أحد أعظم كتابه وأحد المفضلين لي أثناء شبابي»، ونقل الرئيس الأميركي تعازيه لعائلة الكاتب وأقاربه، وأوضح أوباما أنه التقى ماركيز في أفريل من سنة 2009 في مكسيكو سيتي أثناء مأدبة عشاء أقيمت على شرفه من جانب الرئيس المكسيكي السابق فيليبي كالديرون، أهدى ماركيز خلالها أوباما نسخة موقعة من رواية «مئة عام من العزلة»، كما أعربت الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف عن أسفها لوفاة ماركيز، موضحةً أنه سيظل في قلب الملايين من قرائه وذاكرتهم، حيث قالت في تغريدة لها على «تويتر» إنه "صاحب النص الرائع والشخصية الفريدة"، واعتبر الرئيس الكولومبي السابق ألبارو أوريبي أن ماركيز جعل ملايين سكان العالم يعشقون كولومبيا، ورأى الرئيس المكسيكي أنريكي نييتو أن ماركيز "أحد أعظم كتاب عصورنا، إذ جعل الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية تحمل طابعاً عالمياً"، بينما قال الرئيس البيرواني أويانتا اومالا: «أميركا اللاتينية والعالم بأسره سيشعران بفقد هذا الحالم»، وقال الرئيس الإكوادوري رافائيل كوريا: «رحل غابو. سيكون لنا مائة عام من العزلة، لكن تتبقى أعماله وحبه للوطن الكبير»، وقال الرئيس التشيلي السابق سباستيان بنييرا: «ترك لنا أعمال ملهمة ستواصل إثراء خيالنا»، بينما أعرب الكاتب البيرواني الحائز على جائزة «نوبل» في الآداب عام 2010 ماريو يوسا عن حزنه الشديد لوفاة ماركيز، باعثاً تعازيه لعائلته. وقال يوسا في مقابلة تلفزيونية: «توفي كاتب كبير منحت أعماله الأدب بلغتنا مكانة عظيمة»، موضحاً أن روايات ماركيز ستجعله خالداً ويواصل كسب القراء من أنحاء العالم، كما نعت المغنية الكولومبية شاكيرا مواطنها ماركيز، ووصفته بأنه كان «هدية فريدة لن تتكرر». ونشرت في صفحتها على «فايسبوك» صورة تجمعها به، وكتبت: «عزيزي غابو، قلت ذات مرة إن الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكّره، وكيف يتذكّره ليرويه، وسنتذكر حياتك كهدية فريدة لن تتكرر».

ليلى عمران

من نفس القسم الثقافي