الثقافي

تسويق الرواية بأنها حلت محل الشعر مجرد تسطيح للقضية

الشاعر الجزائري ناصر باكرية لـ "الرائد":

 

 

لا يرى ذاته وصلت للمبتغى في كتابة الشعر برغم أولى محاولاته اعتلاء سدة الحكم كأمير للشعراء، كان الجزائري الأول الذي يخوض مع حشد من شعراء العرب في هذا القرن، مسابقة أمير الشعراء، سألته هل انكفى عن الكتابة، فقال إن القلق مستبد به للرسم بالكلمات شعرا، إنه ناصر باكرية، الشاعر الجزائري، يتحدث في هذا الحوار عن تجربته الشعرية، عن الرواية والشعر وتسابقهما لاحتلال مكانة في الوسط الأدبي، إذ يقول "إن عصر السرعة هو عصر أقرب إلى روح الشعر"، ويرفض التسويق للرواية بأنها حلت محل الشعر مجرد تسطيح للقضية وتناول إعلامي فج، كما ينتقد ذهاب الأكاديميين إلى دراسة الأعمال الروائية في مكان الشعر كون الشعر أعمق فلسفيا من الرواية، كما يعتقد أن الشعر في الجزائر بخير. 

 

هل توقفت مسيرتك عند أولى محاولاتك لإمارة الشعر؟

المحاولة ﻻ تتوقف .. وأنت اقتربت من حقيقة الشعر إذ قرنته بالمرأة والرغبة فطالما كان الشعر شبيها برغبة متجددة ﻻ يمكن إيقاف شراهتها حتى حين نزعم أننا بلغنا ذروة المعنى، فالشعر ككل الفنون لا يخرج عن كونه محاولة واعية أحيانا وغير واعية في أحايين أخرى للوصول إلى الكمال.. إلى المطلق فهو بطريقة ما محاكاة للعالم الذي داخلنا ..ونقله عبر اللغة والمجازات. لذلك الشعر يحتاج إلى الكثير من الوعي بالذات والإنسان.. يحتاج الكثير من الفلسفة لروحه.. يحتاج الكثير من المرآة الكثير من المحاولة..المحاولة التي هي سليلة القلق والسؤال الجارح أكذب عليك إذا قلت لك إنني راض عن نص كتبته أو إنني أصلح للشعر أو إنني أعرف ما أريد من الشعر أو من المرأة أو من العالم مازلت كائنا فراغيا لست محشوا بغير السؤال والحيرة والقلق .

 

هل ترى أن الشعر تراجع دوره في مقابل اعتلاء الرواية المنصة؟

لست على يقين إن كان الشعر تراجع ليترك المكان للرواية أم أنه غزا العالم بتغلغله في كل شيء فالمسألة تحتاج إلى توقف عميق ولا تسمح بالإجابات الجاهزة التسطيحية . صحيح أن الشعر في الثقافة العربية طالما كان ظاهرة صوتية تتكيء على الصراخ والجعجعة وتستمد وجاهتها ووجودها من الشفهي السائد الذي لا يتيح القبض على اللحظة الشعرية إلا وفق تلقٍ آنٍ بسيط وصحيح أيضا أن الشعر كان إلى وقت ليس بالبعيد يقوم بوظائف متعددة وظائف تقودنا إلى تَمثّل كل محاولات القبض على طبيعة ووظيفة الشعر التي حاولتها نظرية الأدب وكل الفلسفات والمناهج التي حاولت من زوايا متعددة مقاربة الشعر ..وحتى في الجانب غير العميق للمسألة إن صح التعبير نجد أن الشعر كان هو وسيلة الترفيه الوحيدة ووسيلة الإعلام الوحيدة ووسيلة الإشهار أيضا، فقد كان يرفع أقواما بالمدح ويحط أقواما بالهجاء كما كان يؤرخ ويرفه وينشد ويغنى والى غير ذلك من وظائف سحبت منه إلى صالح فنون أخرى وأدوات جديدة طرأت على حياة الإنسانية جمعاء وتسربت إلى العالم العربي الذي كان ديوانه الشعر فمن الحماقة أن نظن او نعتقد أنه بإمكان أي قصيدة مهما بلغت من الحجاج والصراخ والاندفاع أن تفعل في مجال التحريض ما يمكن أن تفعله صورة واحدة أو تقرير تلفزيوني مصور، ولهذا السبب تحديدا يظن البعض أن الشعر قد تقهقر وتراجع دوره دون أن ينتبه الذين يعتقدون ذلك أن الشعرية لم تعد تُقارب بتلك التجزيئية واختصارها في القصيدة بشكلها التقليدي، فالشعر هو منبع التخييل والتخيل وهو المنصة التي ينطلق منها الحلم، فالشعرية لم تعد تنتبذ ركنا قصيا في قصيدة شعرية بالمفهوم التقليدي للقصية أيا كان شكلها الذي جاءت فيها بل أصبح هناك شعرية المسرح، وشعرية الصورة وشعرية السنما، وشعرية الإعلام وشعرية العالم أيضا، فمن هذه الناحية الشعر، ولج وغزا العوالم جميعا، أما علاقته بالرواية التي أيضا لم تعد تخلو من الشعرية – حتى دون أن نذهب بعيدا في الحديث عن ذوبان وتلاشي الحدود بين الأجناس الأدبية وحتى غير الأدبية، والانتقال من مفهوم القصيدة إلى مفهوم الكتابة – فالرواية أيضا لا يمكن أن نقاربها بعيدا عن إشكالية المقروئية خاصة في عصر السرعة و"فلسفة اللاجدوى" والعبثية، فحين نقرن الشعر بالرواية ونصورهما على أنهما ضرتان متنافستان على قلب العالم أو عرش المقروئية، نحن نسوق مغالطة في اعتقادي ووهما كبيرا لا يلبث أن يكبر ككرة ثلجية ويحجب عنا أنفسنا والحقيقة التي نخفيها فالرواية تستمد بعض الشرعية ربما من احتمال ان تتحول الى مشروع سينمائي مثلا كما أن الشعر بمفهومه البسيط مازال مرتبطا باحتمال هو الآخر ان يصبح أغنية.. ولو قاربنا الجنسين في سياق موضوعي في ظل المعطيات المتوفرة لا نجانب الحقيقة كثيرا إذا قلنا إن عصر السرعة هو عصر اقرب إلى روح الشعر روح التكثيف والاقتضاب.

 

لماذا تذهب إلى هذا الطرح إن لم يكن سوى تبرير فقط لظاهرة تحدث فعلا؟

لأن تسويق الرواية بأنها حلت محل الشعر مجرد تسطيح للقضية وتناول إعلامي فج لا تعنيه الأسئلة الحقيقية للابداع بقدر ما تعنيه عناصر التشويق والحدث والإثارة وما الى ذلك من المادة التي تقتات عليها الصحافة الثقافية البائسة.. وربما للقضية أيضا ارتباط بالشأن الأكاديمي لأن الدراسات الأكاديمية اتجهت من باب الاستسهال الى الرواية لأنها أسهل للمقاربة والدراسة من الشعر الذي يتطلب تمكنا من أدوات فلسفية عميقة وإطلاعا واسعا ليست في مستوى الضحالة التي يتسم بها التكوين الأكاديمي سواء في الجزائر او في العالم العربي ذلك أن الشعر أصبح ينحو منحى تجريديا فلسفيا ويتكىء على التجربة الصوفية التي ظلت لردح طويل من الزمن مغيبة لتعذرها على الدارس العادي واتكائها على أعماق فلسفية وأسئلة وجودية كبيرة لم تكن تستهوي الذائقة العربية الكسولة.

 

 مقارنة بما كان زمن الشعر السياسي في مرحلة سليمان العيسى ونزار قباني؟ هل للشعر من دور الآن في التأثير على المشهد الثقافي وإثارة حماسة الجماهير نحو زمن ما بعد الربيع العربي؟

 

كما سبق، الشعر توزع دمه على قبائل الأجناس الأدبية، وحتى غير الأدبية، ومن السطحية أن يطلب من الشعر أن يكون مناضلا قميئا للقضايا وشحذ الهمم، لأنه حتى لو حاول ذلك لا يمكن لأي نص كما سبق وقلت أن يكون في مثل تأثير تقرير تلفزيوني، والشعر تماما كالجنباز أو اليوقا رياضة فردية وقلق شخصي لا علاقة له بالمؤسسة الاجتماعية إلا بقدر ارتباطه بإنسانية الإنسان ككائن من الرغبات، فالانسانُ رغبتُه وما الإنسان إلا كتلة رغبات بدءا من الرغبة في الحياة والصراع من أجل ذلك وليس انتهاء بالشعر أو الفن عموما كرغبة في الخلود رغبة في المطلق وها نحن نعود إلى بداية سؤالك حول الشعر، المرأة، الشعر الرغبة..

 

هل ترى بأن المشهد الشعري في الجزائر أخذ مسار التمييع نظرا لرداءة الأعمال الصادرة هذه السنة؟

لا أزعم أنه بإمكاني الجزم بتعميمية مغلوطة أن الشعر في الجزائر ليس بخير وأنه يتسم بالرداءة، لأن حكما كهذا يحتاج الكثير من التوقف والتمحيص، لأن المنجز الشعري الجزائري لا يمكن حصره في إصدارات هذه السنة أو في السنوات القليلة الماضية لأنه تراكمات تمتد الى عقود ، قطعا لن تكون بدايتها بشعراء السبعينيات ولن تنتهي بشعراء الألفينيات، فهناك تجارب شعرية كثيرة تستحق التوقف عندها كثيرا قبل أن نحكم برداءتها أو بتميع المشهد الشعري، ولا أزعم مطلقا أنني مؤهل للحكم على المشهد الشعري الجزائري إلا برؤية أقرب ما تكون إلى الرؤية العامة التي لا يمكن الوثوق بنتائجها، كما أن الكثير من الإنتاج "الشعري" واضع كلمة الشعري بين قوسين يستعصي على التجنيس والكثير من المجموعات الشعرية لم تعد تجنس بالطريقة التقليدية التي تحيلنا إلى أن ما تضمه هو شعر بل أصبحت تكتفي بكلمة نصوص، وفي اعتقادي أن مفهوم الكتابة يعطي لهؤلاء طريقا مختصرا للتملص من التجنيس والهروب الى مفهوم الكتابة الواسع، ووحده الزمن من سيحكم على هذه التجارب بعد ان تتضح معالمها. وفي اعتقادي الشخصي أن الساحة الشعرية الجزائرية بخير، وليست بتلك السوداوية التي يغري بها سؤالك.

حوار: مصطفى حفيظ

من نفس القسم الثقافي