الثقافي

"مقابيس من وهج الذاكرة" نموذجا

القصة القصيرة جدا بالجزائر:

 

رقية هجريس قاصة وشاعرة جزائرية، نشأت بعين البيضاء ولاية أم البواقي، عملت مدرسة للغة العربية ثم مفتشة للتربية والتعليم، عضو بالمجلس الوطني للكتاب الجزائريين، تتوزع كتاباتها بين المقال والقصة والشعر وأدب الأطفال، وتعتبر من رموز الجيل الجديد في الأدب الجزائري، أصدرت مجموعة من الإبداعات منذ بداية الألفية الثالثة؛ حيث أصدرت باكورتها القصصية "ابنة التربية" سنة 2000، والتي صدرت عن دار الهدى بعين مليلة، وضمت عشر قصص قصيرة كتب بعضها في بداية ثمانينيات القرن الماضي. وبعد سنتين أصدرت مجموعتها القصصية الثانية سنة 2002، بعنوان "أطياف قصصية"، وصدرت عن دار الكتاب العربي بالجزائر، ثم أصدرت عملين أدبيين موجهين للأطفال من خلال مجموعتها القصصية "عرس الطبيعة" الصادرة سنة 2003، عن دار الكتاب العربي، و"لمن تصدح الطيور" الصادر سنة 2005، عن دار الهدى بعين مليلة، لتعود مجددا إلى القصة القصيرة الموجهة للكبار في عملها الخامس وما قبل الأخير الصادر ضمن منشورات التبيين التي تنشرها جمعية الجاحظية بالجزائر.

أما العمل الأخير والمميز في سلسلة إصدارات القاصة رقية هجريس، فهو مجموعتها القصصية القصيرة جدا المعنونة بـ"مقابيس من وهج الذاكرة" وهي مجموعة رائدة على مستوى الكتابة النسائية في القصة القصيرة جدا بالجزائر.

صدرت هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا عن دار نوميديا للطباعة والنشر والتوزيع بقسنطينة، في سبعين صفحة، وتضم خمسين قصة قصيرة جدا، جنستها القاصة تحت اسم قصص قصيرة جدا. وستسعى في هذه المداخلة إلى دراسة أنماط حضور المرأة في هذا المتن القصصي القصير جدا.

أولا المرأة الإيجابية:

تحضر الصورة الإيجابية للمرأة من خلال عدة نماذج نسائية تضحي بنفسها من أجل الآخرين، وتشقى لإسعادهم، ولعل أبرز نموذج للمرأة المضحية هو الأم، خاصة إذا تنكر لها الأبناء بعد أن تربيهم وتتعب من أجلهم، وتفني جسدها ولا تجد في الأخير حتى من يسمع أنينها وصرخاتها، وهو ما تسعى القاصة إلى إبرازه من خلال القصة الأولى في المجموعة والتي جاءت بعنوان "الأم"، والتي جاء فيها:

"عجز الجسد الذي كان آية في الجمال والرشاقة، كلت أعضاؤه، ضمرت عضلاته، وما عادت تقوى على شيء..

نأى الأبناء، كل وفق مصالحه، ناسين، متجاهلين، فأضحت وحيدة، تتجرع مر الفراق، وآلام الداء في سن قيل عنها "أرذل العمر" لا فرق بينها وبين متاع مودع في زاوية البيت؛ تشكو ولا يسمعون، تئن، تبكي، لا أحد يضمد جراحها، إلا الفراش..

في ليلة من ليالي الصقيع، صرخت بما تبقى في حنجرتها، رفعت رأسها، وأومأت بيد مرتعشة، لتوصي بشيء.. لكن لا أحد تفطن..مضت عابرة سبيل في دنيا الوحدة والألم."ص:9.

وإذا كان هذا هو حال الأم التي أنجبت وسهرت الليالي، فإن المرأة بصفتها أختا أكثر معاناة وتضحية، إذ تتخلى حتى عن حقوقها الشرعية التي كفلها لها الدين مثل الإرث، كما نجد في قصة "ميراث":

"هد كاهلها العوز، ذرفت دموعا حارة، ثم قالت:

أين ثروة أبينا الطائلة؟

ردت: تقاسمتها زوجات إخوتنا منذ وفاته" ص:27.

إذ تعالج هذه القصة قضية اجتماعية دينية تعيشها العديد من النساء داخل المجتمعات العربية الإسلامية، ألا وهي قضية حق المرأة في الإرث الذي تحرم منه النساء دون وجه حق، فالقصة تفتتح بتصوير وضعية امرأة أتعبها الفقر، تبكي حالها وتصبر، ثم تسأل عن مصير تركة والدها، التي وصفت بالطائلة، ليأتيها الجواب من ذاتها المنكسرة، بأن التركة تقاسمتها زوجات الإخوة مباشرة بعد موت الأب. فالمرأة الأخت هنا فقدت الحق حتى في السؤال بعد أن فقدت الحق في الميراث، لأنها تسأل نفسها ثم تجيب نفسها بنفسها، ما دامت عاجزة عن إلقاء مثل هذا السؤال بين الإخوة والأهل.

زيادة على هاذين النموذجين نجد في المجموعة القصصية نماذج نسائية إيجابية أخرى لنساء يضحين بحياتهن ووقتهن من أجل إسعاد المحيطين بهن، مثل قصة: "وحشية"، و"تهميش"، و"قسمات الخير".

ثانيا الصورة السلبية للمرأة:

بالمقابل تقدم القاصة رقية هجريس في مجموعتها القصصية نماذج لشخصيات نسائية، تعطي صورة سلبية عن المرأة المتحدية لزوجها والمتحررة من التزاماتها وواجباها تجاه الزوج والعائلة، المرأة التي تهتم بالمظاهر والماديات فقط.

ومن نماذج هذا النوع، نشير إلى قصة "التحدي".

"عاد لطفي من عمله خائر القوى، منهكا، يدر قدميه جرا بطيئا، دخل منزله الصاخب بأهازيج النسوة، ينبعث من البهو، قصد المطبخ عله يجد ما يسد به الرمق، انتظر طويلا، لما ثارت ثائرته، هاج وماج، ثم صاح: "اخرجي..." أطلت كأنها قوس قزح، لم تكترث به..اغتاظ، وهجم مرددا: "اخرجي.." فغادرت رفقة صديقاتها، وهي تجر حقيبتها، أما هو فلم يغم عليه، لكنه هوى على أريكة لا يستوعب شيئا.." ص:13.

فالزوج يعود إلى البيت بعد يوم عمل مضنٍ، ليجد زوجته منشغلة بصديقاتها، منخرطة معهن في الرقص والضحك، مما يضطره إلى طردها من المنزل عندما لم يجد في المطبخ ما يسد به رمقه.

والمصير نفسه تلقاه بطلة قصة "الحرة"، التي تبذر أموال زوجها في الزينة والحلي، في حين هو لا يجد في جيبه مصروف الشهر من مستلزمات الأكل والشرب:

"بحث في صندوقه، فتش كل جيوبه عله يجد مصروف الشهر، نظر إليها، فإذا هي في الخميلة تتبختر.

قال لها: لم كل هذا البذخ والتبذير؟

رفعت كتفيها، ردت بلا وعي: أنا حرة..

لم يتفجر شريانه، لكنه فتح الباب على مصراعيه، وببنانه أشار: أنت حرة..

أنت حرة." ص"14.

 

 

خلاصة:

نستخلص مما سبق أن القاصة رقية هجريس سعت في هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا إلى تسليط الضوء على بعض المشاكل الاجتماعية التي تنخر جسد مجتمعاتنا، والتي من بينها المشاكل الأسرية التي تشكل المرأة محورا من محاورها، وبذلك قدمت لنا صورة مزدوجة عن المرأة؛ الأولى فيها صورة إيجابية للمرأة والثانية صورة سلبية عنها.


د.نورالدين الفيلالي

من نفس القسم الثقافي