الثقافي

"صفر فاصل".. كلام آخر عن الثورة التونسية

عمل جديد للمسرحي توفيق الجبالي

 

كانت مسرحية "كلام الليل" لتوفيق الجبالي عملا مؤسسا ومؤثرا في المشهد المسرحي التونسي في تسعينيات القرن الماضي. قدم الجبالي أعمالا كثيرة قبل وبعد "كلام الليل" منها "ذاكرة ديناصور" و"عطيل" و"ضد مجهول" و"المجنون" و"هنا تونس" و"أربع ساعات في شاتيلا" وغيرها، لكن مسرحيته تلك بقيت العلامة الأبرز. في "كلام الليل" حقق الجبالي ذروته الإبداعية، وظلت أعماله الأخرى تنطلق منه حتى تجاوز العمل صفته كعمل مسرحي إلى مرتبة المشروع المسرحي، ذلك ما يكشفه جديده الفني "كلام الليل صفر فاصل" الذي يعرض هذه الأيام بفضاء التياترو بالعاصمة التونسية. في "صفر فاصل" يقارب الجبالي مرحلة ما بعد الثورة التونسية من خلال مجموعة من الموتى الذين يرقدون في بيت الأموات بإحدى مستشفيات تونس، وينهضون آخر الليل لمحاولة فهم ما جرى لتونس أثناء الثورة وما يجري بعدها. يدخلون في حوارات متشعبة حول الاغتيالات وقضية القناصة وظروف استشهاد أو موت هؤلاء وانتماءاتهم السياسية. كما يتطرق العمل إلى مسائل كتابة الدستور وفتاوى الدعاة الوافدين وواقع "التطرف" في تونس اليوم.

الثورة وما بعدها تكمن قوة توفيق الجبالي في قدرته العجيبة على توليد اللغة من بعضها وتحويل اليومي إلى فني وإعادة قراءة السطحي بشكل عميق يجعله يتدحرج من موقعه كسطحي إلى مستوى من العمق لم نعرفه. وضمن هذا التفكر في اليومي والمكرر والممل أيضا يتنزل عنوان المسرحية "صفر فاصل". تلك العبارة التي أطلقها الفائزون في انتخابات ما بعد الثورة التونسية على خصومهم الخاسرين في شكل من التشفي السياسي الذي قسم المجتمع التونسي كما يرى عدد من المراقبين والمحللين إلى منتصر وآخر مهزوم. غير أن هذا الكلام وهذا الرقم الذي تحول إلى "شتيمة" من نوع ما أخذه الجبالي وفككه وشرّحه فنيا في فضائه النموذجي وهو المشرحة التي يرقد فيها الأموات العائدون إلى الحياة لإعادة تمثيل ما جرى أو ربما محاسبة الأحياء. والتركيز كان على الصفر، هذا الرقم الغامض في كل تمظهراته السيميائية من حلقة إلى نقطة يقول عنه الجبالي "الصفر هو الفراغ، الثقب، الدائرة، النقطة، الحلقة. هو المطلق، اللاشيء، نقطة التحول ولحظة تدمير الخيال المريرة". ومن هنا يرتفع الجبالي بالقول الشعبي وبالشتيمة إلى مستوى التفكر الفلسفي لواقع ينهشه الخطاب الشعبوي، ليؤكد أن ما نقوله مهم شرط أن ندركه ونقاربه بوعي آخر غير الذي نعي به الملفوظ. فتونس-كما تقول إحدى شخصيات المسرحية- "عادت إلى مستوى الصفر"، فهل يكون ذلك منطلقا لها لتنهض من جديد أكثر عنفوانا أم إن الصفر مجرد نقطة نهاية لشعب ووطن وحلم.

 

البداية: ماذا نفعل بالثورة؟

تبدأ المسرحية بمشهد عروسين في ملابس الزفاف يركضان بشهيد في حيرة كبيرة. ماذا يفعلان به وكيف وأين يضعانه؟ وهو مشهد لخص حيرة التونسيين الثوار الذين أسقطوا نظاما ولكنهم سقطوا في حيرة الاتجاه حينما وجدوا أنفسهم أمام سؤال جوهري ومؤلم: وبعد؟

كلما وضع العريس "الشهيد" في وضعية صاحت فيه عروسه إنها ليست الوضعية الصحيحة، حتى انتهى المشهد بأن المحاولات الكثيرة لوضع الشهيد في موضعه ألحقت بالشهيد أضرارا بالغة وأخذت العروس في لوم عريسها على عدم فهمه.

تلك استعارة على حالة الندم التي وقع فيها التونسيون لخيارات ما بعد الثورة، حينما ورطوا أنفسهم في خيارات غير محسوبة منها المجلس التأسيسي الذي أصبح كابوسا ومهزلة سياسية -كما سيعرضها العمل الفني- عكسا لما يراه في أماكن كثيرة من الشارع وفي الإعلام.

 

فضاء الموت الحر 

ويبقى بيت الأموات أو المشرحة -التي تدور فيها كل أحداث العمل المسرحي- فضاء متحركا، تمكن المخرج من توسيع مداه حتى نراه أحيانا بالمؤثرات البصرية فضاء مطلقا ولا متناه. وقد نجح فريق العمل في جعل هذا الفضاء فضاء متحركا في أبعاده المختلفة، مما ساهم في نجاح عملية تشريح الثورة تشريحا ناجحا.

كما أعطى المخرج -توفيق الجبالي- اهتماما كبيرا للإضاءة والديكور والكوليغرافيا والأزياء، ما أكسب العمل قيمة عالمية كعمل مشهدي مستفيدا استفادة واضحة من السينما والفن التشكيلي وعالم المليتميديا.

تبدأ المسرحية بثلاث جثث تعود للحياة بلا ملامح حاملة أقنعة يجسدها كل من توفيق الجبالي ورؤوف بن عمر ونوفل عزارة، وتحاول هذه الأجساد أن تعرّف نفسها فتجد أنها عاجزة وأنها متشابهة، فالموت ومن قبله القمع قد قام بمحو ملامحها الخاصة وهوياتها الشخصية ليكسبها وجها واحدا أطلق عليه تجاوزا لفظ "مواطن".

ففكرة المحو رئيسية في العمل المسرحي وإن لم تعلن. الكل يبحث عن ذاته التي سلبت منه في وقت ما لتتحول المسألة في النهاية إلى البحث عن هوية بلد بالكامل مهدد بالاختفاء بعد تعرضه لغزو من كائنات فضائية لاحمة اقتحمت المشرحة -تونس- وراحت تلتهم جسد الشهيد.

تتعانق الأجساد المهزومة على خشبة المسرح مسلوبة الإرادة، أكوام من الشهداء فوق الطاولة يحتار العاملون في المشرحة في أمرهم فينقلونهم من مكان إلى مكان ليصبحوا وليمة للكائنات الغريبة التي سقطت عليهم لتنهش لحمهم.

مقاربة توفيق الجبالي المسرحية تبدأ بحيرة ماذا سنفعل بعد الثورة؟ وماذا نفعل بالشهيد؟ وتنتهي بحيرة الأموات والشهداء وعدم قدرتهم على الفهم ولا على استنباط الحل بعد أن قرؤوا المشهد السياسي الراهن.


من نفس القسم الثقافي