دولي
في جلاء موقف السعودية من التطبيع
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 25 أوت 2020
كلام حق يُراد به باطل. هذا باختصار ما يعكس الموقف السعودي من التطبيع مع إسرائيل بعد الاتفاق الإسرائيلي – الإماراتي، إذ يبدو أن السعودية، من خلال تصريحات وزير خارجيتها، فيصل بن فرحان، في ألمانيا قبل أيام، ثابتة في مواقفها، خصوصاً بعد مقالة الدبلوماسي السعودي والمدير السابق لجهاز المخابرات، الأمير تركي الفيصل، في صحيفة الشرق الأوسط قبل أيام أيضاً، وفيها أن ثمن التطبيع مع إسرائيل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، فيما سبقه بن فرحان بالقول إن بلاده متمسّكة بالسلام على أساس مبادرة السلام العربية. هل يُعتبر هذا الموقف السعودي ثابتاً على المواقف السابقة، ومناصراً للموقف الفلسطيني، أم أنه "دعم" ملغوم ينقل الكرة إلى الملعب الفلسطيني، وسيحمّل القيادة الفلسطينية لاحقاً مسؤولية تطبيع الرياض مع إسرائيل بسبب "مواقفها الرفضية" و"عدم مرونتها"، أي عدم تساوقها مع "صفقة القرن"؟
يحمل مقال الفيصل سموماً كثيرة ضد الفلسطينيين، بعد تبريره التحالف الإماراتي مع إسرائيل، ويضعه بشكل واضح في سياق الصراع مع قطر وتركيا وإيران، إذ كتب: "فلقد تَسارَعَ الثلاثي الخرب، قيادات قطر وتركيا وإيران، لكيل الاتهامات لدولة الإمارات العربية المتحدة بالخيانة والطعن في الظهر، وكل ما تعوّدنا أن نسمعه منهم. ويضاف إليهم، للأسف، القيادة الفلسطينية التي رمت بنفسها خلف الثلاثي، والتي لم تنل منه سابقاً، ولن تنال منه لاحقاً، إلا شعاراتٍ جوفاء". ومن ثم يدعو الفيصل: "فيا قيادة فِلسطينَ، اتّعظي بما يقوله أحدُ أبرزِ زعامات تيار فتح الإصلاحي الديمقراطي، سمير المشهراوي، والْجِمِي الشاتِمِينَ والشامِتِينَ من مواطنيكِ، ولا تَنْسَي أنَّ مَصالحَ الشعبِ الفِلسطيني هي مع دولة الإمارات العربية التي تستضيف أكثرَ من ثلاثمائة ألفِ فِلَسطيني يسترزقون من خيراتها، وينعمون برعايتها لهم". وفي ذلك تقزيم لطموحات الفلسطيني وحصرها بـ"الاسترزاق" من "خيرات" الإمارات، وهو المنطق الاقتصادي الذي قامت عليه "صفقة القرن"، وهو منطق رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الذي يدعو إلى "سلام اقتصادي" بين الصهيونية والعرب والفلسطينيين، وتفضيل المصالح على الحقوق والمبادئ، وهذا عدا عن تبنّيه خط القيادي المفصول من حركة فتح والمستشار الأمني لمحمد بن زايد، محمد دحلان.
ويمهد الفيصل الطريق لدول عربية أخرى للحاق بالإمارات، فكتب: "وعلى كُلٍّ، إذا كانت أي دولة عربية يناهزها اللّحَاق بدولة الإمارات العربية المتحدة، فيجب أن تأخذَ الثمنَ في المقابل، ولا بُدَّ أن يكون ثمناً غالياً". ويسارع إلى توضيح طبيعة الثمن: "ولقد وضعت المملكة العربية السعودية ثمنَ إتمام السلام بين إسرائيل والعرب، هو قيام دولة فلسطينية ذات سيادة وعاصمتها القدس، بِناءً على مبادرة المرحوم الملك عبد الله بن عبد العزيز. ولرُبَّ غدٍ لِناظرِهِ قريبٌ".
تتناقض ادعاءات تركي الفيصل بعضها مع بعض؛ فمن جهةٍ، لا يعارض لحاق دول عربية بالحلف الصهيوني – الإماراتي، بل يحثّ عليه بشكل غير مباشر، لكنه، من جهة أخرى، يضع الثمن "غالياً"، ويوضح لاحقاً أنه "قيام دولة فلسطينية ذات سيادة وعاصمتها القدس" استناداً إلى المبادرة العربية. التناقض بأنه "يتمسّك" بالمبادرة العربية، ولو تصريحاً، ولكنه في الوقت ذاته يتفهم التطبيع الإماراتي، ولا يمانع لحاق دول عربية أخرى. هل قيام الدولة الفلسطينية بات "ثمناً غالياً" للتطبيع مع إسرائيل، خصوصاً أنه لم يأتِ على ذكر حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967؟ أم أن ذلك سيصبّ، في النهاية، في مساعي الضغط على القيادة الفلسطينية للرضوخ والدخول في مفاوضات مع إسرائيل في إطار "صفقة القرن"، ولكن استناداً إلى المبادرة العربية؟
منطق الفيصل واضح: الإمارات دولة سيادية لها مصالح، وتحالفها مع إسرائيل في هذا الإطار؛ القيادة الفلسطينية ليست مستقلة ومنجرّة خلف قطر وتركيا وإيران (بترتيبه)؛ السياسة الفلسطينية يجب أن تحكمها المصالح (الاقتصادية تحديداً) وليس الحقوق الوطنية والقومية (اتعظوا بدحلان)؛ إذا ما رأت أي دولة عربية أن مصالحها تصبّ في التحالف مع إسرائيل، كما فعلت الإمارات، فليكن، لن نعوقهم؛ ثمن التحالف يجب أن يكون المطالبة بإقامة دولة فلسطينية سيادية (السيادة عنده تُحصر بالمصالح).
الاستنتاج أيضاً واضح: حتى تقوم الدولة الفلسطينية أو الحديث عن إقامتها، يجب أن تنخرط القيادة الفلسطينية بالمفاوضات مع إسرائيل في إطار المبادرة الوحيدة حالياً، وهي "صفقة القرن"، ولهم أن يأخذوا معهم المبادرة العربية أساساً للمفاوضات، وتكون معياراً للتنازلات وتعطيهم شرعية الرجوع عن موقفهم الرافض للصفقة والانخراط في المفاوضات في إطار الصفقة نفسها، ولكن على أرضية وهمية اسمها المبادرة العربية التي رفضتها وترفضها إسرائيل؛ ومصالح الفلسطينيين ستكون أولاً باستمرار تعليق الضم الإسرائيلي لمناطق في الضفة الغربية طوال فترة المفاوضات، عاماً أو عامين أو أكثر. وثانياً، ضمان المصالح الاقتصادية مع الدول الخليجية التي تدور في فلك إسرائيل. هو منطق "صفقة القرن" ونتنياهو نفسه.
تنص الصفقة، بشكل غير مباشر، على أن الضم الإسرائيلي يجب أن ينتظر أربع سنوات لإتاحة المجال لعودة القيادة الفلسطينية إلى المفاوضات في مقابل تجميد الاستيطان مؤقتاً في المناطق الفلسطينية التي لن تكون من حصة إسرائيل وفق الصفقة. وإذا رفضت القيادة الفلسطينية ذلك، ستكون إسرائيل قد نفذت الجزء المتعلق بها من الصفقة؛ أي تجميد الضم أربع سنوات، الاستعداد للتفاوض مع الفلسطينيين على كيانٍ، ليس سياسياً بالضرورة، يمكنهم تسميته "مملكة" أو "إمبراطورية" أو ما شاؤوا، وإذا ما رفضوا المفاوضات سيكون العالم، والعالم العربي تحديداً، في حِلٍّ من قضيتهم، لأنهم يرفضون الانخراط في "صفقة القرن"، ويفوّتون "الفرص التاريخية" بعد أن حققت الإمارات "إنجازاً لهم"، وهو تعليق الضم، ولكنهم فوّتوا الفرصة.
حتى تستطيع الدول العربية الراغبة في التطبيع الرسمي مع إسرائيل تحصيل "الثمن الغالي"، وهو إقامة الدولة الفلسطينية، فإن مسؤولية توفير هذا الثمن ملقاة على القيادة الفلسطينية، لا على إسرائيل، لأن إسرائيل، في نظرهم، التزمت خطوات الصفقة، أي تعليق الضم من أجل التفاوض مع الفلسطينيين على إقامة كيانٍ ما، لكنهم هم الذين رفضوا، بالتالي هم، أي الفلسطينيون، يتحمّلون مسؤولية عدم توفير "الثمن الغالي".
هذا ببساطة المنطق السعودي كما عرضه تركي الفيصل، وهو جزءٌ من مسار "صفقة القرن" وخطواتها وبنودها. الخطوة الأخيرة كانت إشهار التحالف الإماراتي مع الصهيونية، وهي أيضاً من خطوات هذه الصفقة. فمن جهةٍ، منحت إسرائيل وأميركا محمد بن زايد "إنجازاً" هو تعليق الضم الذي أصلاً تنص بنود الصفقة على عدم تطبيقه فوراً، ومنح الفلسطينيين أربع سنوات للدخول في المفاوضات. ومن جهة ثانية، قدّم بن زايد هدايا انتخابية لدونالد ترامب ونتنياهو.