دولي

مأزق العالم مع اضطراب المعلومات بشأن كورونا

يشهد العالم منذ بدء موسم كورونا حالة اضطراب في المعلومات والروايات والتأويلات المتعلقة بالجائحة. تشابكت الخلفيات الكامنة وراء هذه الحالة التي ستبقى مُتاحة لاحتمالات التوظيف السياسي والاستغلال الدعائي في اتجاهات متعارضة، كلّ حسب حبكته الخاصّة.

صعدت كورونا من وباء إقليمي في شرق آسيا إلى جائحة عالمية. تحرّك الفيروس سريعاً من الصين وجوارها إلى أعماق أوروبا، ففوجئت حكوماتها باجتياح "كوفيد-19" وأظهرت ارتباكاً في إدارة الأزمة خلال أسابيعها الأولى.

بدا الموقف على الجانب الآخر من الأطلسي أكثر ارتباكاً، فتصرّفت إدارة دونالد ترمب مع الفيروس كما لو كان صينياً أو أوروبياً وحسب، وأوحت بأنّ الولايات المتحدة محصّنة منه، قبل انتقال مركز الجائحة إلى الأرض الأمريكية.

واجَه العالم مع فيروس كورونا المستجدّ أزمة لم يعهدها من قبل، وتعدّدت مقاربات الحكومات في التعامل مع الجائحة غير المسبوقة في مداها منذ قرن على طيف من الخيارات المحسوبة على الصرامة والتساهل أو الإغلاق والانفتاح، واستندت كلّ حكومة في خياراتها إلى حجج غير منسجمة مع غيرها، واضطرّت بعضها إلى تغيير سياساتها في التعامل مع الموقف الداهم.

بدا واضحاً أنّ العالم لم يكن مستعداً لأزمة كهذه، كما اتضح مثلاً في ارتباك الإجراءات ونقص مستلزمات الوقاية وأجهزة التنفّس، ولم تُسمَع تحذيرات مبكرة من مؤسسات مختصّة بالبحوث والدراسات والاستشراف أو لم تلقَ اكتراثاً وسط انشغال الحكومات بأولويّات أخرى.

لم تجد الشعوب في لحظة الحقيقة روايات وافية معتمدة بشأن وباء يجتاح العالم، فبدا لها غامضاً في أبعاده الصحية وآماده الزمنية وعواقبه المركّبة، فلاذت بعض الجماهير من الحيرة والاضطراب والقلق والمخاوف بتفسيرات سهلة أو تأويلات مغالية إزاء ما يُقعِد البشرية ويعطِّلها.

تشابكت الخلفيات الكامنة وراء اضطراب المعلومات والروايات والتأويلات، فمنها ما يعود بطبيعة الحال إلى طبيعة الحدث العالمي الجسيم، وسرعة تفاعله، وغموض أبعاده، وغياب العلاجات واللقاحات اللازمة لاحتوائه.

ومنها ما يشي بأزمة ثقة كامنة لدى الجماهير نحو الحكومات أو السلطات أو مراكز النفوذ وشبكات المصالح، بما وضع شركات الدواء وهيئات المجتمع الدولي، وكذلك أثرياء الأرض ومتنفِّذيها، في بؤرة الاتهام والشكوك الجماهيرية، كما تجسدها حالة بيل غيتس مثلاً الذي تطارده اتهامات سخيّة بالضلوع في الأزمة أو السعي إلى التربّح منها أو فرض خيارات رقمية معيّنة على العالم.

أطلقت حالة الغموض والقلق التي تجتاح المجتمعات العنان لتقديرات جامحة أنعشت الخيالات الخصبة والفرضيات الخرافية التي وجدت رواجاً واسعاً في زمن التشبيك، فانساحت في المنصّات الشبكية وتطبيقات التواصل طائفة من الروايات المزعومة عن منشأ الجائحة وملابساتها ومآلاتها والساعين إلى استغلالها.

يبقى الاستقطاب من خصائص التداول المعلوماتي في مواقع التواصل الاجتماعي، فالجمهور يميل فيها إلى التعامل مع المضامين بصفة انتقائية من خنادق متقابلة، وتنخرط نخب محسوبة على الخبرة والرصانة والاختصاص في هذا التقليد لأسباب من بينها كسب الحظوة والتصدّر الجماهيري، بما يُذكي الحالة أو يمنحها مصداقية بغير جدارة.

ثمّ إنّ جانباً من أزمة المعلومات والتفسيرات والتقديرات بشأن حالة كورونا تعود إلى أنّ الصين غير مشهود لها بالشفافية والانفتاح أساساً، وجاء في بعض الانتقادات أنها تستّرت على ظهور الوباء أو تجاهلت انتشاره في الأسابيع الأولى. ثمّ تفاقم الموقف بعد أن انهالت سهام النقد والتشكيك على الهيئة الدولية المختصة في هذا الشأن.

واجهت منظمة الصحة العالمية اتهامات غير مسبوقة من خنادق شتى، وبلغ الأمر مبلغه بإعلان إدارة دونالد ترمب المأزومة داخلياً عن القطيعة مع المنظمة وحجب المساهمات المالية عنها.

في ظلال هذه التجاذبات اكتسبت الأوساط الطبية الواقفة على "الجبهة الأمامية" ثناء مستحقّاً، وتصدّر الأطباء والمختصّون وسائل الإعلام لمواكبة الحالة الوبائية. انفتح الباب الجماهيري على مصراعيه لمحسوبين على الأوساط الطبية وحقول الاختصاص تعارضت رواياتهم أو انخرطوا في الاستقطابات وهم يرتدون نظّارات الخبرة ومعاطف الاختصاص.

وبينما انهمكت السلطات الصحية المختصة في إصدار بياناتها الدورية عن مؤشرات الجائحة؛ تداعى أطباء ومتخصصون ناقدون إلى تشكيل جماعات تتبنّى روايات بديلة بشأنها، ودعوا -كما في ألمانيا مثلاً- إلى تجمّعات عامّة مناهضة للتدابير الحكومية. انزلقت خطابات تبدو علمية وطبية إلى تجاذبات متعارضة جاء بعضها مُسيّساً، وخاض حاملو ألقاب اختصاصية مواجهات متبادلة في الشاشات والشبكات، بما عبّر عن حالة استقطاب حادّة احتجّ كل فريق فيها بذخيرة من المعلومات والمؤشرات والدراسات والمزاعم.

لم تتوقف أزمة المعلومات عند هذا الحدّ، فجهود العلاقات العامة التي دأبت عليها دول وحكومات وهيئات مختصة وشركات دواء زادت الاضطراب والحيرة عندما دفعت بوعود متلاحقة على مدار ربيع 2020 أوحت باكتشاف لقاحات أو ابتكار علاجات حاسمة لفيروس "كوفيد-19″.

اقتطعت دعاية الدول والمؤسسات والشركات حصّتها على هذا النحو من تضليل الجماهير حول العالم، عندما تنافست في كسب الاهتمام الإعلامي وإظهار الاقتدار البحثي والتعبير عن الاستجابة الفعّالة ومحاولة حشد الاستثمارات والموارد لمصلحتها.

تداولت الجماهير على الضفة الأخرى من هذه المزاعم مقاطع وتسجيلات تمنح وعود الخلاص من الفيروس بالتشخيص الذاتي، والعلاج التلقائي، والوصفات الشعبية؛ دون طبيب أو مشفى أو حجر صحي، وزعم بعضهم أنها أسرار لا ترغب شركات الدواء أو منظمة الصحة العالمية بتداولها.

تعاظمت معضلة الأخبار المزيفة والمواد الملفّقة خلال موسم كورونا، وصارت مكافحتها شاغلاً معلناً لحكومات وهيئات إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي، وأعلنت مواقع التواصل الاجتماعي عن حملات وخطوات وإجراءات في مواجهة الحالة المستعصية على الضبط.

شجّعت أزمة المعلومات بشأن "كوفيد-19" تفشِّي سرديّات الحبكة المدبّرة وراء الفيروس، فانتشرت انتشار النار في الهشيم حول العالم مشفوعة بمقاطع ووثائق وإثباتات مزعومة. ظهر متحدثون ومتحدثات في هيئة توحي بالخبرة والرصانة والاختصاص المزعوم ليعبِّروا عن قناعاتهم الخاصة أو لينشروا مزاعم ملفّقة وروايات مزيّفة بلغات الأرض، وشكّكوا في الروايات الرسمية والتقارير المعتمدة.

من نفس القسم دولي