دولي

الحال الفلسطيني ووباء الضم الإسرائيلي

أخيرا، وبعد تهديداتٍ ومواقف وقراراتٍ استمرت منذ الثالث من ديسمبر/ كانون الأول 2010 وحتى قبل أيام، حين أعلن الرئيس محمود عباس، وبلهجة تهديدية، أن منظمة التحرير الفلسطينية في حل من الاتفاقيات مع إسرائيل، في أعقاب تشكيل حكومة الاحتلال ذات الرأسين وإعلانها تمسكها بضم المستوطنات والأغوار وتهويد كل مناطق الاحتلال الثاني، معلنا القرار الذي تأجل ثماني مرات، من دون أن يمس التنسيق الأمني، ومن دون أن تنفذ حكومات الاحتلال المتعاقبة المطالب الفلسطينية التي لم يتحقق منها، طوال سنوات أوسلو العجاف، ما كان على الاحتلال ومؤسساته الحكومية تنفيذها، بحسب الاتفاقات التي تستمر إسرائيل في نقضها.

وردا على وباء الضم والتهويد والأسرلة، لم يجد نتنياهو من يقف في وجهه ليحدّ من اندفاعته الجديدة، على الرغم مما كشفه الخبير العسكري الإسرائيلي، عاموس جلعاد، عن أن الضم المحتمل للأرض لن يفسد العلاقات مع الأردن فحسب، بل سيزعزع استقرار السلطة الفلسطينية. وتساءل: لماذا تخاطر إسرائيل بأمنها القومي بقراراتٍ سياسية متهورة وغير عقلانية؟ وبقّ جلعاد "البحصة"، حين ذكر أنه إذا ابتعدت اسرائيل، بأي حال، عن البنود المتفق عليها في اتفاقيات أوسلو، (وهي بالفعل ابتعدت وابتعدت كثيرا)، فإن استمرار وجود السلطة الفلسطينية سيكون بلا معنى، وستغرق المنطقة في حالةٍ من الفوضى، انهيار السلطة وسقوط الرئيس محمود عباس سيدفعان الفلسطينيين إلى الإيمان بفشل نهج اللاعنف الذي ينظّر له عباس.

وقد جاء في تقرير لصحيفة هآرتس أن جهات في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية حذرت، حتى قبل تصريحات العاهل الأردني عبد الله الثاني، أخيرا في مقابلته مع مجلة دير شبيغل الألمانية، وبشكل مفصل، من أنه "في ظل ظروف متطرفة"، من شأن الضغوط الأردنية الداخلية على الملك أن تؤدي إلى إلغاء معاهدة السلام الأردنية مع إسرائيل.

وإذا كان الضم والإلحاق لا ولن يجعل من كيان الاحتلال دولة الأغلبية اليهودية، ولا يمكنها أن  

"الخضوع لسلطة استبداد الفرد لن يقدّم لشعب الأرض والقضية الوطنية سوى مزيد من الهزائم والتراجعات" تستوفي شروط دولة قومية يهودية عنصرية مكتملة الأركان، كما في الذهن الصهيوني ومخططاته الاستيطانية، فالأرجح أن لا يتم الضم كما في تصورات نتنياهو وحكومته، وهو موقفٌ تؤكد عليه أطراف حزبية وسياسية إسرائيلية عديدة تخشى من أن تكون مفاعيل الضم خطوةً نحو إشكالية "الدولة الواحدة"، كونها سوف تضم أغلبية فلسطينيةً لا يستطيع الإسرائيليون صدّها أو مقاومتها ديموغرافيا، ولا مجاراتها عدديا. وبالتالي، الطرف الخاسر من هذه العملية سيكون الإسرائيلي، على الرغم من مزايدات اليمين المتطرّف وتوجهاته للاحتفاظ بما تسمى "أرض إسرائيل الكاملة"، على حساب الأغلبية الفلسطينية في كل مناطق فلسطين التاريخية. وفي مطلق الأحوال، لا يستطيع اليمين العنصري الصهيوني تنفيذ مخططاته من دون عمليات ترانسفير مشابهة للتي جرت قبل 72 عاما، على الرغم من صعوبة ذلك عمليا اليوم.

لذا قد لا يتم التهديد بالضم في الفترة القريبة المقبلة (يوليو/ تموز المقبل)، لأسباب عديدة سياسية واقتصادية وصحية تسفر عنها جائحة كورونا وتداعياتها وتفاعلاتها، وما تركته وتتركه من آثار على اتخاذ القرارات والسياسات الكفيلة بتحقيق أو عدم تحقيق ما تعمل عليه حكومة دولة الاحتلال، في ظل وضع إقليمي ودولي وفلسطيني، ينشغل هو الآخر بما يشغل العالم كله في مواجهة الجائحة الصحية، وهي تنشر مفاعيلها على اقتصادات الدول وتدهورها مع تدهور أوضاعها الصحية؛ إذ ليس مقدّرا أن يجري التغلب على آثارها في فترة قياسية، فالوضع الاقتصادي العالمي يوشك على انهيارات غير مسبوقة، لا يمكنه إيجاد حلولٍ لأزماته المستفحلة اليوم، كما كان يحصل في السابق، فالتردّي الدولي، وعدم قدرة القطب الأوحد أو مجموع الأقطاب الدوليين على استعادة التماسك والانسجام النسبي مرة جديدة، قد لا يتم ولن يتم في وقت قريب، في ظل التنافس غير المسبوق في عالم التجارة والاقتصاد والتقنيات، والتسابق على تصنيع لقاحات لعلاج ضحايا الجائحة الكورونية، وما أدراك ما يجري في المختبرات التي تنشر سمومها وفيروساتها عبر العالم.

وسط كل هذه الأجواء المسمومة، لا يستند الرهان الفلسطيني على المفاوضات إلى أي عنصر قوة محلي أو إقليمي أو دولي؛ وحتى لو جرت المفاوضات، لن يجد الفلسطينيون ما يلبي أي طموح،  ولو في حدّه الأدنى، ولا سيما في ظل استمرار الوضع الانقسامي والتباعد السياسي والوطني بين أطراف "فصائل رام الله" غير الموحدة، ولا فصائل غزة كذلك، وكل طرفٍ يراهن على ما يعتقده عنصر القوة لديه، وليس لدى الآخرين، فالشرذمة الواقعة في الجسد الفلسطيني لا تأتي بنتيجة لمصلحة الشعب والقضية الوطنية، والوضع العربي المبتلى بأوبئةٍ عديدة، لن يستطيع أن يقدّم للطرف الفلسطيني أي دعم من أي نوع، خصوصا في ظل ما نشهده من تطبيع مواقفه وتطويعها لمصلحة العدو.

يبقى الفلسطينيون الطرف الأضعف في معادلة المفاوضات، كما في معادلة "المقاومة والممانعة"، أما الانتفاضة الثالثة المؤملة، فهي ما ينبغي الرهان عليها واستكمال الاستعدادات الكفيلة بتحقيق إنجازات الضرورة الوطنية، قبل أن تتلاشى قوة ومفاعيل واقع ذاتي وموضوعي فلسطينيا، أسفر منذ زمن عن أوهام "صفقة القرن" وأضغاث أحلامها، وما يمكن أن تحمله من "صفر نجاح" في مفاوضات مفترضة، لا تبدو بوادرها ممكنة.

أخيرا.. إذا كان الإسرائيليون قد عقدوا صفقة تقارب سياسي وحزبي، اتفقوا بموجبها على تشكيل حكومة يمينية متطرّفة، فمن الاستحالة أن يؤدي التباعد الوطني الفلسطيني إلى ما يأمله شعب الأرض والقضية؛ فالمسألة لا تتعلق بسياسات استبدادٍ سلطوية فحسب، بقدر ما ينبغي أن يعود الفلسطينيون إلى تسييد منطق المؤسسات والعمل وفق روحها الخلاقة، وإلا فالخضوع لسلطة استبداد الفرد لن يقدّم لشعب الأرض والقضية الوطنية سوى مزيد من الهزائم والتراجعات؛ والتاريخ لا يرحم ولن يرحم من تجاهل المصالح العامة لشعبه ولم يحافظ عليها، قدر احتفاظه بمصالحه الخاصة والزبائنية له ولسلطةٍ زينت لذاتها إمكانية فوزها في معارك هي الطرف الأضعف فيها.

من نفس القسم دولي