دولي

هل ما زالت فلسطين القضية المركزية؟

كانت الرؤية الغالبة تؤكد أن لا إمكانية لتعايش المشروع النهضوي العربي والمشروع الصهيوني، فإمّا أن ينتصر هذا أو ذاك. هذا قبل عقد الخمسينيات من القرن الماضي. الاستعمارات حينها دجنت الطبقات المالكة والحاكمة، وكانت النتيجة زراعة ذلك الكيان، والتأسيس لفشل العرب. أنظمة الاستقلال لم تتبن مشروعاً للنهوض، حيث خفضت من أهمية القضية الفلسطينية، وقضايا أخرى، فسحقتها ثورات العسكر، وهؤلاء همشوا قضايا الشعوب العربية، وأعلوا كاذبين القضية المركزية، أي فلسطين، وكانت النتيجة فشلاً مركّباً، على الصعيدين القومي والوطني. والأسوأ انتهاج سياسة تفتيت المجتمعات العربية إلى بنى قبلية ودينية ومناطقية وقومية منغلقة، وسُيّست الأديان والقوميات والقبائل، لتتحارب حينما تحدث الانتفاضات. كان الهدف من الأنظمة التابعة واضحاً: إحكام سيطرة الدول الرأسمالية وإسرائيل على شعوبنا ونهب ثرواتها. مرَّ ذلك بمرحلتين، قبل الخمسينيات، حيث كان الاستعمار مباشراً، وبعدها صار الاستعمار عبر الأنظمة التي حكمت، وسيطرت بأسماءٍ شتى، وطنية واشتراكية وليبرالية وسواه كثير. 

قبل عدّة أيامٍ، مرّت ذكرى نكبة فلسطين (15 أيار/ مايو)، واتفق أغلبية المحللين لها ولأحوالنا على أن أحوال العرب كلّها في حالة نكبةٍ، ولم تعد فلسطين وحيدةً! ونستثني الممانعين الذين لم ينته مشروعهم بعد، ويمرُّ على جثث العرب، وعبر تدمير دولهم، وبهدف الوصول إلى فلسطين وتحريرها من إسرائيل. في الذكرى الـ72، انبعثت أسئلة وأفكار، وعادة ما تتكرّر منذ أكثر من عقدين. الأسئلة: هل فلسطين قضية مركزية، ألم تستخدمها الأنظمة أداة أيديولوجية لإخضاع الشعوب العربية وإخراسها، ألم تستخدمها هي، والعداء للإمبريالية، للإجهاز على حقوق الشعوب العربية، وبالتالي الحل إزاء ذلك يكمن في البدء بالحريات والديمقراطية في كل بلد على حدة. وحينما يتحقق ذلك، ربما يتمّ التفكير بفلسطين، أقول ربما، حيث هناك آراء تؤكد ضرورة الاعتراف بإسرائيل كما هي، ولا يضعون شروطاً تراعي حقوق الفلسطينيين، وكأنّ الأخيرين ليست فلسطين أرضهم، ولا حقوق لهم فيها. وتصل المغالاة هنا إلى أن الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم، وبذلك تكتمل التفاهة، حيث تشطب كل مؤامرات الحركة الصهيونية والدول الإمبريالية للتحكّم بفلسطين وتهجير أهلها، وكيف بدأ المشروع الصهيوني، وكيف تطوّر وصار دولة!

اتخذت الأنظمة التي ادعت وصلاً بالتقدمية من فلسطين حجة لقمع الشعوب، مع ضرورة التمييز  بين مراحل هذه الأنظمة، فقبل السبعينيات في سورية لا يماثل ما بعدها، وقبل أنور السادات ليس هو في أثناء حكمه وما بعده. التمييز لا ينفي استبدادية تلك الأنظمة بكل مراحلها، وذلك الاستبداد بالتحديد هو الذي أسّس لخسارة فلسطين وفقدان الشعوب حرياتها وحقوقها، وتحوّلت الأنظمة نفسها إلى أدواتٍ تابعة للدول المتحكّمة بالعالم، روسيا، أميركا، أوروبا، بل وحتى تركيا وإيران، وهناك إسرائيل.

ما فعلته الأنظمة العربية بشعوبها يختصره رأي، قيل في مرحلة ما، وهو سليم: لو حكمت إسرائيل العالم العربي لما فعلت به ما فعلته تلك الأنظمة. وبالتالي، ما الرؤية الأفضل للقضية الفلسطينية، ولحقوق وحريات العرب، هل بتركنا فلسطين، والتفاتنا إلى الدواخل العربية سنحقّق التطوّر، والحريات.. هل بأفكارٍ كهذه نخدم فلسطين فعلاً، حيث إن نمو الديمقراطية سيحاصر إسرائيل ويخنقها في عقر دارها؟ هذا، يا سادة، تبسيط مخلّ بالقضيتين معاً؛ بفلسطين وبالدواخل العربية، ويبدو أنه سيساهم بقسطه في ضياع فلسطين وتلك الحقوق.

الموضوع شائك للغاية، وتغيير نقطة البداية ليس هو الحل، فلنلاحظ، مثلاً، أن دولاً عربية كثيرة أدارت ظهرها لفلسطين، ماذا كانت النتيجة؟ هل نالت تلك الشعوب حرياتها وحقوقها؟ التأسيس لمشروع نهوضي عربي جديد هو مبرّر الاشتغال بهذه القضايا؛ قضايا الفكر السياسي العربي. رؤية التكامل بين الأمريْن هو الأساس. ولكن هل يلغي هذا القضية المركزية في النضال وفي التفكير، كما قد يتوهم بعض النظريين أو العمليين، أي يجب أن تكون دائماً هناك قضية مركزية واحدة، وقضايا فرعية وهامشية، ووفق ذلك، تتأسس السياسة والأحزاب وسواها؟ القضية المركزية ليس بالضرورة أن تكون واحدة، بل قد تكون جملة من القضايا، وهي مع بعضها نسميها مركزية، وبالتالي التكامل في فهم علاقة فلسطين بالدواخل العربية هو الأساس، وطبعاً يجب تحديد العلاقة مع العالم، وصياغة مشروع وطني واجتماعي للتغيير، وهذا يعني التأسيس لرؤية دقيقة بشأن مجمل قضايانا الداخلية والعربية وفلسطين، ورؤية الترابط والتكامل والتشارط بينها.

الآن، لنلاحظ، فشل الثورات العربية في مرحلتيها في تلمّس البعد القومي، وحتى الجانب  لاجتماعي فيها لم تعبر عنه بدقة، والأمر ذاته يخصّ الجانب الوطني. حدثت الثورات، والفكر السائد عربياً يؤكد قضية الحريات والديمقراطية، وبالتالي لماذا كل هذا التعثر، والكلام ينطبق على تونس أيضاً. ما حدث له سيرورته المتميزة، أي ليس مؤامرة يمكن التحكّم بها، وهناك حزب أو جملة أحزاب قادت الأمر إلى ذلك المصير. الفشل ذاك لا يعني نجاح الطرف الآخر في الصراع، وكذلك لا يعني أن أفكار الثورة سليمة لما ذكرنا. الحصيلة هنا فشل مركّب، فشل الأنظمة والثورات معاً. هناك من أكد أن الثورات مهمتها الهدم، فيما البناء قضية تتعلق باليوم التالي لتغيير الأنظمة. والحقيقة أن هذه الفكرة فشلت أيما فشل، فلم يكن اليوم التالي يتضمن إلّا رؤية القوى المُنظَمة من قبل، وتطعمت الأنظمة الجديدة بسياسات الأنظمة المنهارة، أو تمّ نجاح الثورة المضادة، وتخرّبت أكثر من دولة عربية. هذه الفقرة تقصد القول بفشل التسليم لفكرة الحريات والديمقراطية، مسلمةً تتجه الشعوب العربية إليها وتنهض بها وتستعيد فلسطين أو تتعايش مع إسرائيل وتتنافسا! لم يتحقق ذلك، والأزمات تتراكم في هذه الدولة أو تلك، وما زال الفكر العربي يتبنّى التجزئة في فهم قضايا العرب، ويؤكد قضية الديمقراطية، ويتجاهل القضايا المركّبة منطلقات للثورات وللصراع، وبوصلةٍ توجهها. لم تنته الثورات، ولن تنتهي طالما أسبابها موجودة، وقد تتراجع حيناً، ولكنها ستنبثق لاحقاً كما تمَّ مع الموجة الثانية.

شكل فشل المشروع النهضوي سبباً مركزياً في تأسيس إسرائيل وظهور دول التبعية العربية،  ولكن ذلك لم يكن كافياً لإسرائيل وأميركا بالتحديد، فكان تفكيك البنى العربية عبر سياسات أنظمتها هي بالتحديد، وضمن ذلك ضاعت فلسطين. ذهبت مشاريع الغرب وروسيا لحل الصراع بهذا الاتجاه. وبالتالي، لا إمكانية جديّة لنهوض العرب من دون دمج الأبعاد: الاجتماعي والوطني والقومي، بوصفها قضايا متآزرة في ثوراتهم، وبذلك يمكن أن يتقدّم الصراع نحو القضايا الفعلية، وإحداث التحوّل الديمقراطي، وهذا سيكون عبر تآزر الشعوب العربية معاً، ومع بقية شعوب المنطقة، وكذلك رفض الكيان الصهيوني، واعتبار ساحات النضال متكاملة، وليس من غلبة لواحدة على أخرى.

إذاً فلسطين، وقضايا أخرى تخص كل بلد عربي على حدة، هي قضايا متكاملة، متشارطة. وعبرها، ينهض ذلك المشروع الذي فشل مرات كثيرة، فهل يحفر الفكر العربي في هذه القضايا؟

من نفس القسم دولي