دولي

ذكرى النكبة في الزمن الصعب

تحل هذه السنة الذكرى الثانية والسبعون للنكبة (1948)، في زمن تصاعدت فيه حدّة الأزمات والكوارث فلسطينياً وعربياً، فمن مأزق الخلافات والصراعات الفلسطينية البينية، وما تَرَتَّب عنها من انقسامات، إلى صفقة القرن التي تندرج ضمن خطط التمهيد للتصفية النهائية للمشروع الوطني الفلسطيني، إلى آثار وباء كورونا ومضاعفاته على الحدود الدنيا من العيش والسلامة الصحية لشعبٍ أعزل فوق ما تبقى من أرض فلسطين، وذلك من دون الحديث عن أوضاع فلسطينيي الشتات في المخيمات.

اجتمعت المعطيات المذكورة لتؤطِّر اليوم موعد الذكرى، وتُضَيِّق الخناق على آليات التنفيس التي تحققها الذكرى سنوياً، حيث تَمّ، في ضوء ما ذكر أعلاه، منع اللقاءات والتجمعات التي تُشَكِّل، في العادة، مناسبة لرسم معالم طُرق المواجهة وأساليبها.. وينبغي أن يضاف أيضا ما يُتَمِّم الصورة ويوضحها أكثر، فقد حلت الذكرى في زمن تراجعت فيه الحدود الدنيا من التضامن العربي، وارتفعت أصوات المطبِّعين مع إسرائيل في السِّرِّ والعَلَن.. يحصل هذا كله في سياق اتفاقية أوسلو التي أدخلت مشروع التحرّر الفلسطيني في مآزق جديدة، تَرَتَّبَ عنها ما نعرف اليوم من مآلاتٍ كاشفةٍ عن كثير من صور العنف التي تمارسها إسرائيل بدعم أميركي مُعْلَن على مختلف الحقوق الفلسطينية.

أسأل نفسي وأنا أُشَخِّص جوانب من شروط وسياقات واقع الحال الفلسطيني والعربي زمن ذكرى 

"ألحقت الحروب بالفلسطينيين والعرب هزائم فظيعة، وشتتت شعباً بكامله"  النكبة، ذكرى التهجير واغتصاب الأرض، وجنون الشعار الصهيوني، المتمثِّل في أرضٍ بلا شعبٍ لشعب بدون أرض. أسأل نفسي، ألَم يَحِن وقت جنون الفلسطينيين بعد؟ ثم أتراجع عن سؤالي الأول، فأقول متى حلَّت ذكرى النكبة أو ذكرى الهزيمة، أو ذكرى يوم الأرض أو مختلف ذكريات العدوان الإسرائيلي على فلسطين والفلسطينيين وكانوا في أفضل حال؟ ستظل الظروف الفلسطينية غير ملائمة إلى حين حصول توافقات جديدة بشأن مآل القضية ومستقبلها، وحصول توافقات أخرى تجيب عن سؤال ما العمل؟ أي كيف نواجه مآلات الراهن المشخّصة في قيود "أوسلو"؟ وحصول توافقات صانعة لإجماع فلسطيني على أسئلة المرحلة وبرنامج عملها.

لا تختلف ذكرى النكبة هذه السنة عن ذكراها في سنواتٍ مضت، فهي تحل سنوياً لتضعنا مجدّداً أمام ظروف طرد الفلسطينيين وتهجيرهم من بيوتهم وأراضيهم وقراهم ومدنهم.. صحيحٌ أن إحياء الذكرى زمن الوباء مأتمية، إلا أنها وهي تحضر سنوياً، تشكِّل بالنسبة للفلسطينيين، مناسبةً لترتيب أفق العمل التحرّري الفلسطيني. وإذا كان الكيان الصهيوني لا يتوقف عن عمليات التنكيل بالفلسطينيين، ولا يتوقف عن مزيد من ضم المستوطنات، ووضع الحواجز والقيود على شعبٍ أعزل، فكيف لا تكون مناسبة الذكرى فرصةً مواتية، لإعادة بناء مسارات المقاومة والمواجهة أيضاً، حتى لا نكتفي بالقول إننا في زمن صعب، فالأزمنة الصعبة هي أزمنة المقاومة..

تحل الذكرى في وضع فلسطيني عربي يزداد سوءاً، إنها تضع أجيالاً جديدة من الفلسطينيين والعرب أمام تاريخٍ أكبر منهم، تاريخ من صنع عُقود زمنية مضت برجالها وقياداتها وخياراتها وتضحياتها، عقود خَلَت بمبادراتها المتعدّدة وأخطائها، وبَصَمَت جوانب عديدة من صور تطور القضية، حيث نفترض أن مواصلة العمل، في ضوء كل ما جرى، وفي ضوء أسئلة المرحلة 

"أصبح الفلسطينيون في جُزر معزولة داخل الضفة والقطاع، بدون أي مشروع للتحرير، وبدون أي أفق في المواجهة"  وخياراتها، تتطلَّب مراجعةً سياسيةً تاريخيةً جديدة، تُمَكِّن من استشراف الأوجه الممكنة لصراعٍ تاريخي كبير، صراع مرتبط اليوم كما ارتبط في بداياته، بشروطٍ عربية وإقليمية ودولية، ومرتبط أيضاً بواقع الكيان الصهيوني واستعماره الاستيطاني لأرض فلسطين، صراع أصبح يرتبط اليوم بِسِجِلٍّ من المواثيق والمعاهدات الدولية، الأمر الذي يضع القضية أمام امتحانات جديدة، من أجل تجاوُز المآلات التي أصبحت عليها منذ سنوات، وهي مآلاتٌ تراجع فيها الحس الوطني، وتقزّم المشروع الوطني الفلسطيني، وتقلّص فيها الدعم القومي والدولي، وأصبح الفلسطينيون في جُزر معزولة داخل الضفة والقطاع، بدون أي مشروع للتحرير، وبدون أي أفق في المواجهة.

واجه الفلسطينيون، كما واجه العرب مرات عديدة طيلة المائة سنة الماضية، العدوان والغطرسة الإسرائيلية. ومنذ وعد بلفور ووصايا آباء المشروع الصهيوني وتعاليمهم، لم تكن الحروب والمواجهات سهلة، بل إنها ألحقت بالفلسطينيين والعرب هزائم فظيعة، وشتتت شعباً بكامله، صحيحٌ أن الحروب المشار إليها حصلت بدعم الغرب ومصالحه، وبناء على حساباتٍ مرتبطة بالتاريخ الأوروبي الحديث والمعاصِر، وصحيح أيضاً أن الانتفاضات، ومختلف أشكال المقاومة التي أبدعها الفلسطينيون وهم يواجهون العتاد العسكري للقوات الصهيونية والقوات الداعمة لها، ساهمت في المحافظة على الأمل في التحرير، إلا أن سياق التحوّلات التي عرفتها القضية بعد معاهدة أوسلو، إضافة إلى النزاعات المتواصلة بين الفلسطينيين، أدّت إلى دخول القضية في المآزق التي نعاين اليوم كثيراً من مظاهرها.

لا نتصوَّر اليوم تجاوُز واقع الحال، إلا بإعادة النظر في المسارات التي اتخذتها القضية، وخصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة.. نقول هذا لكي لا نبتعد كثيراً في النظر إلى مآلات القضية اليوم، نقوله لنفكّر في كيفية إعادة بناء مسارات المقاومة والتحرير، في ضوء الراهن، بمختلف أسئلته وشروطه، وذلك بالصورة التي تتيح لنا إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني.

من نفس القسم دولي