دولي

في معنى انفراد إسرائيل بقرار الضمّ

لِأقوال رئيس وزراء حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عشيَّة الإعلان عن عزمه ضمِّ مناطق من الضفة الغربية، وفرْض سيادة الاحتلال عليها، وعلى المستوطنات، معنى لا يمكن تجاهله؛ فالضمُّ يستند إلى رؤيته بأن أراضي الضفة الغربية هي "مهد الشعب اليهودي"، وهذه الأرضيَّة هي التي حملته، بحسب ما جاء في حديثه، في أول جلسة للحكومة، عُقدت في البرلمان مباشرة، بعد مراسم أداء اليمين القانونية، حملته على أن يتعهَّد بضمِّ المستوطنات وغور الأردن، وبتوسيع القانون الإسرائيلي؛ ليشمل الضفة الغربية، ومؤكِّدًا، ومُصادِرًا على المستقبل التفاوُضي؛ بأنَّ مئات الآلاف من المستوطنين في "يهودا والسامرة"، التسمية اليهودية للضفة الغربية، سيبقون في أماكنهم في أيِّ اتفاق مستقبلي.

تكشف هذه الأقوال العلنية الصريحة شيئًا من التصوُّرات الاحتلاليَّة، والتي يجاهر بها اليمين الاحتلالي التهويدي، هذه الأيام. وهذا بالطبع يمنحنا ويمنح العالم صورةً عمَّا سيتلو هذه الخطوة الخطيرة؛ فلا يُتوقَّع أن تتنازل دولة الاحتلال، سيما مع تصلّب الرؤية اليمينية الاستيطانية عن "مهد الشعب اليهودي". ولا ندري؛ فربما يرتقي الخطاب الاحتلالي، ويتضح أكثر، ليقول إن الفلسطينيين القاطنين في المدن والقرى الفلسطينية هم القائمون بالاحتلال، وأنّ على العالم أن  يدعم إسرائيل في إجلائهم عن أرضها (!).

وهذا هو المعمول به، ليس على يد المستوطنين وإرهابهم اليومي ضدّ أيِّ وجود فلسطيني، بل بالسكوت الرسمي الإسرائيلي عن نشاطهم المنظَّم، وعن مرجعياتهم الدينية التي لا تكفُّ بمناسبة، ومن دون مناسبة، عن تحريض غُلاة المستوطنين وفتيانهم على الدمِّ الفلسطيني المباح، ولو لم يكن هؤلاء الفلسطينيون منخرطين في أيِّ حالة مجابهةٍ عسكريةٍ ضد المستوطنين، وإنما في أراضيهم، أو متنقِّلين في طرقات الضفة الغربية.

تذكّرنا هذه الاعتقادات التوسُّعية الصهيونية بأقوال الشاعر السوري محمد الماغوط الذي تساءل في كتابه "سأخون وطني"؛ عن كيفية إيقاظه الأمة اللاهية (آنذاك)، وكيف له أن يقنعها "بأنَّ أحلام إسرائيل أطول من حدودها بكثير، وأنَّ ظهورها أمام الرأي العام العالمي، بهذا المظهر الفاتيكاني المسالم، لا يعني أنَّ جنوب لبنان هو نهاية المطاف... فهي لو أُعطيت كلَّ لبنان لطالبت بتركيا؛ لحماية أمنها في لبنان. ولو أعطيت تركيا لطالبت ببلغاريا؛ لحماية أمنها في تركيا. ولو أعطيت أوروبا الشرقية لطالبت بأوروبا الغربية؛ لحماية أمنها في أوروبا الشرقية. ولو أعطيت القطب الشمالي لطالبت بالقطب الجنوبي؛ لحماية أمنها في القطب الشمالي". ولا يخفى أنّ الأمن هو ذريعة التوسُّع، وإنما وراءه مآرب اقتصادية استعمارية، تتلطّى أحيانًا بالأمن، وأحيانًا، بالحقِّ الديني التاريخي.

هل يمكن لدولة الاحتلال، ومن جانب واحد، وبغض النظر عن الحالة الفلسطينية، والتفاوضية، أن تعلن عن حدود "تطلُّعاتها" في التوسُّع، (في الضفة الغربية، أولًا)؟ حين يمكنها هذا التوسّع، وتتوفَّر لها الظروف الدولية، والأميركية؟ بالطبع، حتى لو أعلنت، والتزمت بحدود لا تتعدَّاها، فلا ضمانة أنها ستلتزم بما ألزمت نفسها به، مستقبلًا، لكنها تستبقي أفقًا مفتوحًا، وهي أقرب، في خطابها، وفي خططها، وممارساتها العملية، إلى إثباته، منها إلى نفيه.

لا يخفى أنَّ أكبر معيق لأن يأخذ ذلك التوسُّع مداه، كلاميًّا، أولًا، ثم عمليًّا، هو الوجود الفلسطيني المتعيِّن، والحيّ، وهو ما يُعبَّر عنه بالمعضلة الديمغرافية. ودولة الاحتلال لا ترى نفسها ملزمةً بتحديد مصيرهم، ولا تقبل، طبعًا، بضمِّ السكَّان الفلسطينيين إليها؛ لأن ذلك يتنافى مع المسار الذي تسير فيه بخطى سريعة، وهو يهودية الدولة، بالتوازي مع تهويد الأرض.

ويتفرّع من هذا المعيق تحدٍّ آخر، وهو ردّة فعل الفلسطينيين على تلك السياسات الاحتلاليَّة البالغة الاستفزاز، فإسرائيل لم تعبأ بالسلطة الفلسطينية، وبمنظمة التحرير التي وقَّعت معها اتفاقية أوسلو التي أرجأت أمر القضايا النهائية، القدس واللاجئين والمستوطنات، والدولة؛ حدودها ومواردها، إلى المرحلة النهائية من مراحل التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي، وهي الاتفاقية التي قبَلها فلسطينيون كثيرون، على مضض وغُصّة، واعترض عليها فلسطينيون كثُر، أيضًا، هذه الاتفاقية التي وُقِّعت برعاية دولية أميركية، لم تعد تعيرها إسرائيل اهتمامًا، حين واتت فرصةً لا تُعوَّض، ولا تفوّت؛ بإدارة أميركية مارقة عن القانون الدولي، وعن القواعد الأميركية نفسها المتعلِّقة بالقضية الفلسطينية، والصراع.

لذلك، تتأكد الخطورة ثانية بحقيقة أنَّ إسرائيل لا تلتزم بالمعاهدات التي تبرمها، ولا بمنطقها. وهذا ينسحب، بالطبع، على سائر معاهداتها، والتزاماتها، مع الدول العربية، كمصر والأردن، ولا حتى مع سائر الدول، فهي تلتزم ما دامت مجبرة على الالتزام، وما دامت لا تملك القدرة على التحلُّل والنقض. وهذا يؤجِّج في العمق، فلسطينيًّا، حتى لدى الذين آمنوا، يومًا، بالحلول السِّلمية، الشكوك بجدواها، ويحمل فئاتٍ فلسطينيةً واسعة على سلوك خياراتٍ أخرى، مقاوِمة، لا تقبل بمنطق التفاوض، وتراه ضربًا من الاستخفاف والأُلْهيات. كما أنه، على الصعيد العالمي، يمنح الدعوات الداعية إلى محاسبة إسرائيل مزيدًا من الزَّخَم، بما فيها حملات المقاطعة.

ولذلك سواء نفّذت السلطة الفلسطينية ما أعلنت عنه على لسان الرئيس محمود عباس، من تحلُّلِها من الاتفاقات مع دولة الاحتلال، بما فيها الأمنية، أو أنها لم تنفّذ، فإن النهج الذي نهجته، وهو نهج التفاوض، (حتى من دون أوراق ضغطٍ حقيقية)، قد أصابه ضررٌ كبير، ليس من السهل أن يتعافى منه، (إن لم نقل إنه جفّ، وتمَّ تجاوزُه)، وأنه تبعًا لذلك، تتأكّد مقادير المجازفة التي تلبّس بها الموقّعون على "أوسلو"، حين وافقوا على تعليق تلك القضايا، إلى مرحلة لاحقة، سيّما أنَّ المسار الذي تذهب فيه إسرائيل يدير الظهر حتى لحفظ الحدِّ الأدنى من ماء الوجه للذين راهنوا، مِن الفلسطينيين والعرب، على نيّاتها بالتوصُّل إلى حلٍّ معقول.

من نفس القسم دولي