دولي

هل غيّر الوباء سياسة إسرائيل حيال الفلسطينيين؟

يلاحظ من يتابع تفاصيل السلوك الإسرائيلي حيال الضفة الغربية وقطاع غزة منذ نشوب أزمة وباء كورونا تعارضاً بين توجّهين: مرونة في السياسة التي تتبعها الأجهزة المختلفة على الصعيد الحياتي والمدني الصحي حيال الفلسطينيين؛ وتشدّداً في التوجهات السياسية وفي مواقف الأحزاب اليمينية الحاكمة ومخططاتها حيالهم.

أظهر الوباء حقائق ليس في وسع أي مسؤول إسرائيلي تجاهلها، في مقدّمها الترابط الجغرافي والاقتصادي بين إسرائيل والضفة الغربية، فأي انتشار واسع للفيروس في مدن الضفة الغربية قد يهدّد مباشرة المستوطنات هناك، ويمكن أن يتسلّل إلى إسرائيل من خلال 120 ألف عامل فلسطيني يعملون فيها، كما يمكن أن يحملوا العدوى معهم لدى عودتهم إلى الضفة. وللمرة الأولى، تظهر إيجابياتٌ للحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ سنوات، حاجزا فعالا في وجه دخول العدوى، ولكن هذا لم يمنع تماماً وصول الفيروس إلى القطاع، وبالتالي هناك تخوّف من إمكانية تفشيه بصورة خطيرة في منطقةٍ من أكثر الأماكن اكتظاظاً بالسكان، والأكثر فقراً في الشرق الأوسط. وقد حذّرت الأمم المتحدة، قبل نشوب أزمة كورونا بأكثر من عام، من خطورة الضائقة التي يعانيها القطاع، وإمكانية تحوّله في سنة 2020 إلى مكانٍ لا يصلح للعيش فيه.

وقد دفع التخوف الإسرائيلي من سيناريو مرعب لتفشّي كورونا في غزة، المسؤولين الأمنيين،  

"للمرة الأولى، تظهر إيجابياتٌ للحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ سنوات" إلى التوصية بتخفيف الحصار عنها، وزيادة دخول المواد الغذائية والضرورية، وتسهيل وصول المساعدة المالية القطرية إلى غزة، وبذل كل الجهود لمنع حدوث تدهور دراماتيكي في الوضع الصحي والاجتماعي في القطاع، يؤدّي إلى انهيار حركة حماس، بحيث تضطر إسرائيل إلى تحمّل المسؤولية. ومرة أخرى، أجبرت الأزمة إسرائيل على القيام بدور غريب، هو المحافظة على عدم انهيار السلطة السياسية لحركة حماس.

أما العلاقة الإسرائيلية بالسلطة الفلسطينية فتختلف جذرياً عن العلاقة بحركة "حماس"، لكنها في الفترة الماضية شهدت توتراً نتيجة الرفض الفلسطيني "صفقة القرن". وأعادت أزمة كورونا تقاربا بين الطرفين، وعمّقت مستوى التنسيق الأمني بينهما. وفي الأثناء، بدا واضحاً مدى متابعة إسرائيل واهتمامها بالطريقة التي عالجت بها أجهزة السلطة مشكلة تفشّي عدوى كورونا منذ اكتشاف الإصابات الأولى في بيت لحم. ويبدو أن الإجراءات التي اتخذتها السلطة على هذا الصعيد محط تقدير لدى الأوساط الإسرائيلية التي رأت فيها دليلاً على قدرة السلطة على القيام بمهماتها، وتحمّل مسؤولياتها في وقت الأزمات، ما دفع أوساطا أكاديمية إسرائيلية إلى التوصية باستغلال ضعف "حماس" للمساعدة في استعادة السلطة الفلسطينية سيطرتها السياسية والأمنية على قطاع غزة.

وكشفت أزمة وباء كورونا أمام أعين الجميع هشاشة إسرائيل وعجزها، فيما هي أعظم قوة

"أعادت أزمة كورونا تقارباً بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وعمّقت مستوى التنسيق الأمني بينهما"  عسكرية في المنطقة، في مواجهة الفيروس. كما أظهرت تخبّط الحكومة، وعدم وجود سياسة عامة لمواجهة الأزمة، وتأخّرها في اتخاذ قرارات الحجْر خوفاً على الاقتصاد من الركود. وها هي تواجه، في آن معاً، ارتفاعاً هائلاً يومياً في معدّل المصابين، وفي عدد العاطلين عن العمل، الذي تخطى المليون ومرشّح للازدياد. ولكن الإخفاق الكبير تجلّى في أداء وزير الصحة، وهو من حزب الحريديم المتشددين دينياً، وقد أصيب بالعدوى وخضع للحجْر، ولم ينجح في إقناع جمهوره من المتدينين المتشدّدين، بضرورة التقيد بإجراءات المسافة الآمنة والعزْل، ما حوّل المدن والأحياء التي يسكنها هؤلاء، وهي من الأكثر اكتظاظاً سكانياً، إلى بؤر لتفشّي الوباء، ما دفع الحكومة إلى الاستعانة بالجيش، لفرض الإغلاق الكامل ومنع التجول في هذه المدن والأحياء.

صحيحٌ أن الحكومة الإسرائيلية ليست وحدها من يتخبّط في اتخاذ القرارات، في ظل عدم اليقين الكامل الذي فرضه الوباء على كل القيادات السياسية، ولكن لجوء زعمائها أخيرا إلى الاستعانة بالجيش، لتطبيق إجراءات الحجْر أوجد انطباعاً واهماً أن الجيش قادرٌ على الانتصار في معركةٍ غير مؤهل لها، وقد زاد ذلك كله في صعوبة مواجهة الأزمة. ولكن هذا كله لم يزحزح السياسات اليمينية الإسرائيلية قيد أنملة عن أهدافها. وما يزال نتنياهو وأحزاب اليمين يبذلون كل جهد لضم الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية وغور الأردن بصورة أحادية، متجاهلين الآثار الخطيرة التي قد تؤدّي إليها هذه الخطوة. ولكن الاستخدام الأكثر سينيةً للوباء كان من  

الاستخدام الأكثر سينيةً للوباء كان من نتنياهو الذي نجح في قلب المعادلة السياسية التي أفرزتها الانتخابات نتنياهو الذي نجح في قلب المعادلة السياسية التي أفرزتها الانتخابات أخيرا، ففرط تكتل أزرق أبيض وحزب العمل في دعوتهما إلى الانضمام إلى حكومة طوارئ، وقضى على خصومه السياسيين، وجعل من شعارهم "فقط ليس بي بي" مهزلة، وعاد ليتحكّم في مقاليد الحياة السياسية الإسرائيلية، مع كل ما يحمله ذلك من تجاهل لإرادة مليون ناخب إسرائيلي صوّت ضد عودة نتنياهو إلى الحكم، وما يشكله من استفزاز للأحزاب العربية وللمجتمع العربي في إسرائيل الذي تعرّض إلى أكبر حملة نزع للشرعية، والتحريض من نتنياهو وحزبه.

قد يكون من السابق لأوانه الخروج بخلاصات واستنتاجات، ولكن إسرائيل، على الأرجح، بعد انتهاء أزمة كورونا ستخرج، مثل غيرها، مدماة اجتماعياً واقتصادياً، وسينعكس ذلك كله على الصراع بينها وبين الفلسطينيين.

من نفس القسم دولي