دولي
كلٌ يدّعي وصلاً بكورونا
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 13 أفريل 2020
منذ تفشّي وباء كورونا، وجد بعضهم في الظاهرة فرصة لإعلان انتصاراتٍ وهميةٍ لصالحه على الأطراف الأخرى التي يعتبرها خصومه، شخصية أو أيديولوجية أو دينية أو سياسية، وكأن الوباء يعمل لصالحهم حصرا، وينتصر لهم على أعدائهم، من دون أن يمسّهم بسوء.
كانت البداية من بلد المنشأ، الصين، التي فسّر بعضهم سبب تفشّي الوباء فيها بأنه عقاب من الله على ما تفعله السلطات الصينية بأقلية الإيغور المسلمة. وغرّد داعية معروف داعيا الله عز وجل بأن تضطر الصين إلى إنشاء مستشفيات بأعداد المساجد التي أغلقوها. ولكن الصين استطاعت، بعد جهد، احتواء الفيروس، وأصبحت تمثل إحدى التجارب المهمة في مقاومة الوباء، على الرغم من العدد المهول من الأكاذيب التي روّجتها في البداية، وعلى الرغم من مسؤوليتها الرئيسية عن تفشّي الوباء في العالم.
انقلبت الآية إذن، بعدما نجت الصين من الموجة الأولى، فيما غرق العالم، خصوصا أوروبا وأميركا، لنجد يساريين وشيوعيين يشمتون في العالم الغربي "الرأسمالي"، قائلين إن الأزمة كشفت نجاعة "بقايا الاشتراكية" والشيوعية في الصين، مقابل هشاشة الأنظمة الليبرالية
"قال يساريون وأيديولوجيون إن الأزمة كشفت نجاعة "بقايا الاشتراكية" والشيوعية في الصين" والرأسمالية الغربية وفشلها. ووجدنا من يحتفي بأنباء تأميم مؤقت لقطاعات وخدمات في أوروبا، باعتبارها دليلا على انتصار فكرة الاشتراكية، مثل القرار البريطاني تأميم السكك الحديدية ستة أشهر، والقرار الإسباني وضع إمكانات المستشفيات الخاصة تحت تصرّف الحكومة، والقرار الفرنسي وضع سقف للأسعار، ومطالبة حاكم ولاية نيويورك بتأميم شبكة الإمدادات الطبية في إطار إجراءات مكافحة الوباء، وغيرها. وفاتهم أن هذه القرارات مؤقتة، وستعود الأوضاع إلى ما كانت عليه بعد انحسار الفيروس.
وفي ما يخص "الاشتراكية الصينية" فهي أكذوبة فاضحة ومضحكة، فالصين لا تعد اشتراكية إلا في خيالات بعض الأيديولوجيين. كما أن تجربتها في مكافحة الوباء شابتها أكاذيب عديدة نشرتها عن حقيقة الوباء في البداية، كما سمحت لملايين من سكانها بالسفر، ولم تسمح لمنظمة الصحة العالمية بدخول مدينة ووهان لجمع المعلومات، وأنكرت أن الفيروس ينتقل بين البشر، وعاقبت الطبيب الذي حذر من الفيروس قبل انتشاره، ثم اضطرت إلى الاعتذار إلى أسرته بعد وفاته. وساهمت كل تلك الأكاذيب في تفاقم الأزمة، وتركت العالم أجمع يقاوم، من دون امتلاك خلفية كافية عن الفيروس وطرق انتشاره والوقاية منه، وبالتالي تدحض فكرة التبشير بانتصار الاشتراكية المزعوم.
جانب آخر من إعلان الانتصار بفيروس كورونا على العالم الغربي، من الناحية الأخلاقية، إذ أعلن الداعية إياد قنيبي عن وفاة طبيب مثليّ الجنس جرّاء إصابته بالفيروس، رابطا تفشي الوباء بانتشار المثلية الجنسية في الغرب، ومستشهدا بآية قرآنية وحديث نبوي، يربط بين الظاهرتين. والمفارقة أن الشخص نفسه كان قد حذّر من التعامل مع الآيات والأحاديث بهذه الطريقة المجتزأة وعرضها لتفسير ظواهر دنيوية، قائلا حينها "القرآن حقائق، وقواطع، وبيان جلي، وليس مادةً للتحليلات السمجة".
وعند انتشار مقطع للرئيس التركي، أردوغان، وهو يستمع للأذان من مدينة غرناطة الإسبانية، تصوّر بعضهم أن ذلك فتح من الله وعودة الإسلام إلى أوروبا، وزعموا أن الأذان يرفع للمرة الأولى في المدينة منذ 500 عام، وهذا غير صحيح ويدخل في التلفيق المضحك لانتزاع انتصارات وهمية. كما رأينا ادعاءات أخرى تحاول الانتصار للدين، زعم أحدها أن علاج كورونا موجود في سورة البقرة، وغيرها من خرافات تسيء إلى الدين أكثر مما تفيده. بينما لجأ آخرون إلى كلام عام لا يُفهم منه شيء، ولا ينتفع به، مثل القول إن الوباء "آية من آيات الله" وهو كلام بديهي لا يحتاج إلى إفراد الوقت والجهد والمساحة لقوله، لأنه لا يؤدي إلى أي عمل مفيد.
حتى في قضايانا العربية، لم يخل الأمر من تفسير الوباء لمصلحة كثيرين، فتفاخر بعضهم بأن
"ساهمت كل تلك الأكاذيب في تفاقم الأزمة، وتركت العالم أجمع يقاوم، من دون امتلاك خلفية كافية عن الفيروس وطرق انتشاره والوقاية منه" قطاع غزة المحاصر لم يصل إليه الوباء، لأنه معزول عن العالم. وابتهجوا لأن إسرائيل ستذوق أخيرا مرارة الحصار والإغلاق والعزل، ولكن الوباء وصل إلى غزة، وأصبح يشكل تهديدا حقيقيا للقطاع المحاصر، المفتقد لأدنى الخدمات الطبية الأساسية. وفي مصر، هناك من اعتبر "العزل" الذي دخل فيه معظم سكان العالم للوقاية من الوباء إنما جاء بسبب "عزل" الرئيس الراحل محمد مرسي من منصبه! معتبرين أن الأخير عاد له اعتباره جراء الوباء.
ووجدت القضايا الأشد محلية نصيبها من الانتصارات أيضا، وأبرزها قضية النقاب، فقد نشر بعضهم صور آلافٍ يرتدون الكمّامات الطبية، قائلين كلاما من نوعية "حارَبوا النقاب فلبسوه رغم أنوفهم"، من دون توضيح من يحارب النقاب وأين ومتى، ومن الذي ارتدى النقاب رغم أنفه، فالعالم بأكمله بجميع أديانه مضطر لارتداء الكمامة، وبالتالي غير مفهوم أن يكون هذا الأمر انتصار أحد على آخر. وهناك من وجد في قرارات إغلاق المساجد فرصة للتأكيد على أن ذلك دليل على غضب الله بسبب تقصير المؤمنين، من دون أن يدور بخلده أن أماكن اللهو مغلقة أيضا للسبب نفسه، ليعكس آخرون الآية، ويشمتوا في إغلاق أماكن اللهو، متجاهلين إغلاق المساجد، وهكذا في دائرة مفرغة من الهراء واللا شيء.
كل هذه التحليلات والانتصارات المعلنة، أفسدها تمدّد كورونا وإطاحته الجميع، عربا وعجما، وكذلك مسلمين ومسيحيين ويهودا وملحدين وأتباع الديانات كافة. وأثبت أنه عصيّ على التطويع في معارك تافهة وبائسة. وهنا يصدق قول الشاعر "كلٌّ يدّعي وصلا بليلى" وليلى لا تقرّ لهم بذاك.