الثقافي

"قرآنُ المُؤرّخين": النصّ الديني في متاهة الاستشراق

يتعامل مع دراسات المستشرقين كما لو كانت حقائق مطلقة

بِإشرافٍ مشتركٍ بين الباحث الفرنسي ذي الأصول الإيرانية، محمد علي أمير- مُعزِّي (1956) والباحث البلجيكي غيوم دي (1974)، صَدر أخيراً عن "منشورات سار" في فرنسا كتابٌ بعنوان "قُرآن المُؤرّخين"، وهو عملٌ يقع في قرابة 3800 صفحة، موزّعة على ثلاثة أجزاء. وقد أشاد بعضهم بهذا الحجم الضخم، كأنه معيار جودةٍ.

يُشير العنوان الذي اختاره المشرفان لكتابهما إلى أنَّ "القرآن" الذي ستكشفُ عنه مقاربتُهما النقدية مختلفٌ تمامًا عن قرآن المؤمنين وعمَّا يعتقدونه في كتابهم المُقدّس، كأنما لا يمكن للمُسلمين أن يبنوا موقفًا نقديًّا من مقدّساتهم، وكأنَّ أجيالَ علمائهم وقعت تَحت إسار الإعجاز القرآني، فلم تتّخذ منه أيَّ موقف علميّ. وهذا من المغالطات، لأنه لا يمكن تجاهل جهود علماء أفذاذٍ مثل السيوطي في "الإتقان"، والزركشي في "علوم القرآن"، وابن عاشور في "مُقَدِّمات التحرير"، وما ساقوه من شبهات وشكوكٍ ردّوا عليها، علاوةً على أعمال طه حسين وعبد الرحمن بدوي ونصر حامد أبو زيد وغيرهم من المعاصرين.

 

يتعامل مع دراسات المستشرقين كما لو كانت حقائق مطلقة

وقد شَدَّد المُشرفان على أنَّ إضافة القرآن إلى المؤرّخين تُفيد العمل على كلّ ما هو منجَز بشري ومُلاحظة التشابهات بين الثيمات القرآنية ونظائرها التوراتية والإنجيلية والهلينية... فعلى سبيل المثال، تُفسَّر عبارة "الحَمد لله"، الواردة في عدّة سورٍ قرآنية، بسوابقها الموجودة في كتابات السريان واليهود والإغريق وسائر المِلَل البائدة التي عاصرت الإسلام أو سبقته. ولكنْ لا يبرهنان على الطريقة التي اقتبس بها النبي محمّد من تلك التراثات ولا على كيفيّة اطّلاعه عليها. ثمَّ أليست الموضوعات القرآنية استعادة للثيمات الكونية؟ ألم يؤكّد القرآن نفسه ارتباطه بما مضى من الصحف الأولى؟ فهو لم يُنكر ذلك الارتباط، بل نافح عنه وسمّاه "تصديق الذي بين يَدَيْه". لذلك، لا نفهم أين مكمن الجدّة أو القطيعة في هذه المَباحث.

وأمّا المرور من ملاحظة هذا التشابه المُفترض إلى القطع بأنَّ النبيّ محمّدًا "سَرِقها" ممّن أحاط به من أتباع الأديان أو أنَّ "مُحرّري القرآن البَعْدِيِّين"، حسب عبارتهم، صاغوها بعدما التقوا بالثقافات الأخرى، فهذا ممّا لا ينهض عليه برهانٌ، ولا يمتُّ إلى العلم بصلة.

وهكذا، يقترح الكتابُ إعادة وَضع القرآن ضمن سياقه التاريخي واستعراض ما أنجزه عنه الاستشراق، منذ نهايات القرن التاسع عشر إلى يومنا، ولا سيما بعد الكشوفات التي وُصفَت بـ"الكُبرى" حول بدايات العرب وتدوين النص القرآني واللغة العربية، وخاصة على أثر اكتشاف نُسخ قديمة من المصاحف، لم يَرَها أحدٌ. وكائنةً ما كانت دقّة هذه الأبحاث، فإنَّ نَتائجها لا تشكّل قطيعة معرفيّة حقّةً مع ما كان متداوَلاً في بداية القرن، ولا تغييرًا في الجَدول الابستمولوجي، حسب مفهوم الفيلسوف الأميركي توماس كون (1922 - 1996)، بل هي تدقيقات وإضافات تؤكّد، في أفضل حالاتها، الأطروحات السالفة.

وقد قُسِّم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء كبرى: تناول الأوّلُ بالتحليل السياق التاريخي والجغرافي للقرآن وبدايات الإسلام (أربعُ دراسات)، وتطرّق إلى القرآن باعتباره نصًّا في مفترق التراثات ونقطة التقاء بين عدّة ديانات في الحِقبة القديمة المتأخّرة، (عشر دراسات)، ودرسَ أخيرًا مدوّنَة القرآن بالاعتماد على تاريخ المخطوطات القرآنية في الغَرب.

وأمّا الجزء الثاني، فهو "تَفسير" للقرآن سورةََ سورةً، حسب المنهج النقدي. ويراعي هذا التفسير البروتوكولَ التحريري الآتي: يُبْدأُ بِذكر البنية العامّة للسورة وعددِ آياتها ويُحَلَّلُ اسمها أو أسماؤها وتُبيَّن فواصلُ الآيات، ثم يستخرجُ مُخطَّط السورة حسب المحاور التي تتطرّق إليها مع ذكر أسباب نزولها، وإن كانت مكية أم مدنية، حسب التحقيب الذي أجراه ريجيس بلاشار ونولدكه وشوالي وبيل ريشار. وبعد ذلك يذكر الباحثون ثيمة الآية، ثم يلحقونها، غالبًا بشكلٍ اعتباطي، بما يشبهها ولو عن بُعدٍ في الكتب الدينية السابقة. ولا يخرج هذا التحليل عن كونه استعادة لما قاله مفسّرو الإسلام ثم المستشرقون الذين اعتمدوا بشكل مركزي على المصادر الإسلامية، وإن انتقدوا بعضَ تَنَاقُضاتِها.

 

ألم يؤكّد القرآن نفسُه ارتباطه بما مضى من النصوص؟

وأمّا الجزءُ الثالثُ والأخير، فيحتوي قائمةَ مصادر ومراجع، فيها سائرُ ما كُتب عن القرآن باللغات الأوروبية منذ قرنَيْن. وتوجد هذه القائمة على المَوقع الإلكتروني لدار النشر، ليتسنَّى تَحيينُها باستمرارٍ.

وأمّا منهجية الكتاب فَتستند إلى مبدأ اعتماد المصادر غير الإسلامية (مثل السريانية والبيزنطية...) لإعادة قراءة ماضي الإسلام وبداياته، لأنَّ هذه النصوص تُقدّم، حسب رأيهم، أدواتٍ جَديدة لفهم تلك البدايات فهمًا علميًّا محايدًا. وهذا ما ازدهَرَ، منذ سبعينات القرن الماضي في دراسات المستعربين. ويتعلّق المبدأ الثاني بضرورة الاطلاع على ما أُنجز في الحقول المعرفية اللصيقة بالقرآنيات؛ كالألسنية والأنثروبولوجيا الدينية وعلم الاجتماع، لتقريب الشقّة بينها. وهذا عينُ ما نادى به المفكّر الجزائري محمد أركون قبل أربعة عقودٍ، وتحوَّل في كتاباته، كما لَدى تلامذته، إلى مجرّد شعاراتٍ فَضفاضة.

ولتحقيق هذه المبادئ، يؤكّد الباحثون، وعددهم خمسة عشر، أنَّ عملهم "لا يعتمد، إلّا بشكل ثانوي، على المصادر الإسلامية، وأنهم يهتمّون بالقرآن بوصفه نصًّا مُغلقًا، بالاستناد حصريًا إلى أبحاث تاريخية وفيلولوجية تقع خارج دائرة الإيمان"، ما يجعل ضمنًا، وبجرّة قلم، كلَّ ما كتبه المسلمون عن كتابهم غير منهجيٍّ. وهذا تعميمٌ. ذلك أنَّ المصادر الأساسية التي اعتمدتها هذه الدراسات، إمّا بشكل مباشرٍ أو غير مباشر، إسلامية محضةٌ. وآية ذلك أنَّ الدراسات الاستشراقية الرئيسية استَنَدت إليها أساسًا واستعادت ما جاء فيها.

وقد يعود سبب رفض المصادر الإسلامية إلى ما سمّاه الباحثون apologique musulmane أو "التمجيدية الإسلامية" الطاغية عليها. وهذا مفهومٌ فضفاضٌ، يشيع طيّ كتابهم، فيعتبرون أنّ جُلَّ ما كتبه المسلمون، في ماضيهم وحاضرهم، ينتمي حصرًا إلى خطاب التقديس للقرآن، ولا يتضمّن بالتالي أيّة مقاربة علمية أو نقدية. وفضلاً عن غموض المفهوم وعدم علميته، فهو يُهمل كلّ تراتبية تاريخية ولا يُميّز بين التمجيد الحاصل في القرون الوسطى بسبب الجدل العقائدي، وبينه في العصر الحديث؛ حيث اتّخذ بعض المسلمين مواقف أكثرَ نقديةً وحيادًا من التراث.

ومن جهة ثانية، قد يُعلَّل تَجنُّب هؤلاء الباحثين للمصادر الإسلامية بجهلهم باللغة العربية الكلاسيكية وعجزهم عن فهمها. وهي عسيرة حتى على المتخصّصين مِمّن يتقن الضاد، فما بالك بغيرهم.

وأخيرًا تَعتمد هذه الأبحاث مبدأ الشك والنقد عبر المعادلة الآتية: الاعتماد على المصادر القديمة إن لم يكن ثمّةَ من سبب معقول يدعو إلى رفضها، أو عدم الاعتماد على أيِّ مصدر منها ما لم يكن ثمّة من سبب معقول يَدعو لاعتمادِها. ولذلك، وبشهادة مؤلّفيه، يتّكئ هذا "التفسير" على الأبحاث الاستشراقية مع أنها قابلة للنقاش والدحض. ولكنها هنا تُقدَّم كما لو كانت بداهاتٍ علميّة فُرغ من إثباتها فصارت في مصاف الحقائق المطلقة.

وفي الواقع، لم تحظ تلك الأعمال بالإجماع والقبول حتى لدى الغربيّين أنفسهم، والذين اعتبروها مُشطّة ولا تحترم قواعد البحث العلمي مثل مباحث كازانوفا (1861 - 1926)، وضغائن كلود جيليو، وهُرَاء كريستوف لكسنبارغ وغيرهم. وتكفي الإشارة إلى الانتقادات الحادّة التي قدّمتها جاكلين الشابي (1943) وقبلها المؤرّخ التونسي هشام جعيط (1935). ومع ذلك، يصرّون على تقديمها كما لو كانت حقائق مقدّسة، وهذا أيضًا من التضليل. بل وتجدر الإشارة إلى كُتُبٍ وفرضياتٍ هَجَرها أهلُها ونقضوها هم بأنفسهم، مثل باتريسا كرون (1945 - 2015) التي عادت ودحضت كتابَها "هاجاريزم" (1977).

وأمّا تأكيدهم على اقتراض القرآن للعديد من المفردات الأجنبية، اقتبسها من العبرية والآرامية والسريانية والإغريقية واللاتينية والإثيوبية وغيرها، فهو جنسٌ آخر من المغالطة؛ فقد فرغ العلماء القدامى، مثل الجواليقي (1073 - 1144)، في كتابه "المعرَّب"، من إثبات وجود أكثر من 400 كلمة أجنبيَّة في القرآن، ولم يروا في ذلك ما يمسُّ بعَربيّته ولا بَيانه.

وكأنما أحسَّ الباحثون بلحظاتٍ من "وخز ضمير"، فأقرّوا بأنّ القرآن "لم يكشف بعدُ عن كلّ أسراره" وراحوا يمجّدون بدورهم مصادرهم. وقد تضمّنت مقدّمة الكتاب عشرات النعوت التفخيمية لمصادر المستشرقين، ممّا يوقع الكتاب في تمجيديّة غربية فجّة. هذا فضلاً عن إحالة أبحاثه بَعضها على بعض، وهو ما يوقع في الدور والتسلسل، أي أنَّ الفرضيات تُدعم بفرضيات غيرها، والاحتمالات تُساق لدعم ذاتها ويُبرَهن عليها باحتمالات غيرها.

وقد يعمد الباحثون إلى إنكار الحوادث التاريخية التي أجمعت عليها الأمّة، مثل المجازفة بإنكار وجود "صُحف حفصة"، التي اعتُمدت في تدوين مصحف عثمان، وهي التي كُتبت في عهد أبي بكر الصدّيق، ومثل إنكار اسم النبي "محمّد"، وهي حقائق حَظيت باتّفاق المؤرّخين القدماء المسلمين وجلّة المستشرقين الذين يَعتمدُ هؤلاء على أعمالهم. فتراهم يدحضون هذه "الوقائع"، دون أدنى دليل، ضمن كلامٍ أقرب ما يكون إلى "الهُراء" الذي لا رابط له. كادت صفحات الكتاب تستحيل تهويمًا فرديًّا أو تحليلًا مدرسيًّا ساذجًا. واسْأَل عن الجهات المُمَوّلة لمثل هذه المشاريع.

من نفس القسم الثقافي