الثقافي
المتاحف فتحت أبوابها الافتراضية
من هذه المنصات محرّك "غوغل للفنون والثقافة" التي تضم وثائق عالمية لأكثر من 1200 مؤسسة دولية
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 17 مارس 2020
مع استمرار انتشار فيروس كورونا المستجدّ وتعطيل الحياة اليومية للناس في مختلف أنحاء العالم، مما يجبر الكثيرين على الحجر الذاتي والعزلة في البيت، واستجابة لهذا قامت المتاحف العالمية وبعض صالات العرض للفنون البصرية والمنصات الإلكتروني بإنشاء جولات افتراضية مجانية مع تعليقات علي الأعمال، كنوع من التعاضد مع عشاق ارتياد المتاحف والغاليرهات.
من هذه المنصات محرّك "غوغل للفنون والثقافة" التي تضم وثائق عالمية لأكثر من 1200 مؤسسة دولية، يمكن للمرء أن يتجوّل فيها بين أروقة افتراضية تضمّ صوراً عالية الدقة لأعمال فنية ومجموعات نادرة، إلى جانب إتاحة جولات افتراضية في مواقع أثرية عالمية مثل آثار روما.
من المتاحف التي تتيح جولات افتراضية "متحف متروبوليتان للفنون" و"غوغنهايم" في نيويورك و"معرض أوفيزي" في فلورنسا، و"متحف فان غوغ" في أمستردام، و"متحف كالوست كولبنكيان" في لشبونة، و"المتحف البريطاني" في لندن.
كما فتح اللوفر في باريس جولة افتراضية في جناحه الكبير للآثار المصرية القديمة، إلى جانب متحف أورساي في باريس، ومتحف "إرميتاج" في بطرسبرغ في روسيا، و"الوطني للفنون" في واشنطن، المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر في سيؤول، ومتحف بيرغامون في برلين.
ورغم أن الكثير من المعارض الكبرى أغلقت مبكراً، تمكنت بعض المتاحف من تصوير العروض رقميًا حتى تتمكن من بثها عبر الإنترنت، من بينها معرض بورتريهات رامبرانت في "متحف تيسين بورنيميزا الوطني" في مدريد.
ويذكر أنه وحتى اللحظة، لم يعلن أي مركز ثقافي عربي أو متحف عن مثل هذه المبادرات، رغم أن الكثير منها أغلق في الدول التي تأثرت بانتشار الفيروس.
كورونا.. بيروت تغرق في الصمت
وقبل أسابيع كانت شوارع بيروت تغصّ بالمتظاهرين، وفشلت كلّ محاولات قوات الأمن في إخلائهم من الميادين، وكذلك فشلت المبادرات السياسية في أن تعيد الهدوء إلى الشارع.
لكن فيروس كورونا حوّل شوارع المدينة إلى أماكن شبه مقفرة، تلك التي كانت تصخب نهاراً وليلاً، إن لم يكن بـ الاحتجاجات فبالفعاليات والعروض الموسيقية والمسرحية وأماكن السهر.
لبنان اليوم يعرف 99 حالة إصابة بفيروس كورونا المستجد، وأُعلن عن ثلاث حالات وفاة، وحالة واحدة تعافت. انهيار اقتصادي وإحباط أضيف إليها خطر انتشار الوباء في ظلّ ظروف حرجة.الثقافة ليست في برج عاجي، ولا هي بمعزل عن التأثّر بهذا المناخ من الترقّب والخوف، وإن حاول اللبنانيون تقليد الإيطاليين بالوقوف على البلكونات والرقص والغناء، لكن الواقع يقول غير ذلك.
فعاليات جرى تأجيلها لأجل غير مسمّى، ومراكز ثقافية عُرفت بنشاطها وتأثيرها أوصدت أبوابها وأعلنت تعليق كلّ أنشطتها بسبب الوباء، وهذه نفسها كانت قد علّقت أنشطتها الأشهر الماضية بسبب الانتفاضة والاحتجاجات، فلنا أن نتخيّل حجم الكساد الثقافي وتضرّر القطاع مادياً ومعنوياً خلال الأشهر الماضي التي يكلّلها اليوم كورونا.
"دار النمر للفن والثقافة" أعلنت "تمّ تأجيل البرامج العامة بسبب الظروف الحالية في البلاد"، المؤسسة التي عرفت نشاطاً كبيراً في النصف الأول من العام الماضي توقّفت في الثلث الأخير تضامناً مع اللبنانيين في الشارع، وفي الشهرين الأوّلين من هذا العام اقتصرت في برامجها على عروض سينمائية أسبوعية وهي الآن تعلّق كل شيء بانتظار الآتي.
كذلك نشر "متحف سرسق" على موقعه الرسمي إعلاناً "في ضوء التدابير الأخيرة على مستوى الدولة لمنع انتشار فيروس كورونا، ولضمان سلامة زوارنا، سيغلق "متحف سرسق" أبوابه في الوقت الحالي وحتى إشعار آخر"، كذلك أعلن "المركز الثقافي الفرنسي" بكلّ فروعه في لبنان إغلاق أبوابه أمام الجمهور، وتعليق كلّ برامجه إلى أجل غير مسمّى ناشراً على موقعه بعض إجراءات السلامة والوقاية. وكذلك فعل غاليري "جانين ربيز"، و"صالح بركات"، و"أجيال"، وجرى إغلاق كافّة المتاحف الوطنية.
أما الأحياء التي كانت تضجّ بالموسيقى والحياة، كالجميزة والحمراء ومار مخايل فقد نشر ساكنوها صوراً محزنة لها وهي تخلو من الناس وتغرق في الهدوء والصمت.
التفكير في زمن كورونا
يهدّد فيروس كورونا بالعودة بالبشرية إلى عالم الضرورة الذي اعتقدنا لزمن أنّنا تخلّصنا منه، أو أننا نتحكّم فيه بشكل مطلق، كما يُهدّد بانهيار بنيان الأبرتهايد، الذي يقسّم البشرية بين من يملك تاريخاً ومن يعيش خارجه، بين جنوب فقير وشمال غني، بين من يملكون ومن لا يملكون.
يقول الفيروس الجديد الشيء الكثير عن انفصام عرى العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ويقول أكثر عن انفصامها بين الإنسان والإنسان، وعن أيديولوجية استهلاكوية، تتلاعب بالمصير البشري، وما يُخيف في كلّ ذلك أنها تحوّلت إلى نوع من الديانة المعاصرة. بل حتى الذين يدينون بآلهة قديمة، لا يدينون بها إلّا من خلال اللغة والفكر والتصوّرات والرموز والأشكال الحياتية التي تُؤسّس لها هذه الديانة الجديدة، سواء كانوا واعين بذلك أم غير واعين.
سيكون لانتشار فيروس كورونا تأثير على تصوّراتنا واعتقاداتنا، ولربما سيكون أول أمر يدفعنا لإعادة النظر به هو تصوّرنا عن الحرية الفردية، بل إن هذا الفيروس وانتشاره، كما سيعبر الفيلسوف الأخلاقي ميشيل ديبويي، إلى جانب التغيّرات المناخية، يؤكّد بأننا نعيش في العالم نفسه، وأنه لا يمكننا تجاوز مخاطره إلّا مجتمعين، وأكثر من هذا، فإن الفيروس برأيه "يعيد الطبيعة إلى مركز اللعبة". لكن هل ستقبل الرأسمالية في نسختها النيوليبرالية بذلك، هي التي اختزلت علاقتنا بموضوعات العالم في الحرب والملكية والاستهلاك؟ أم لربما سترغمها الطبيعة على ذلك؟
يكتب ميشيل سير في "العقد الطبيعي" (1990)، وفي نوع من الرؤيوية، كما لو أنه يكتب عنّا اليوم: "لقد أصبحنا، بحكم تحكُّمنا المفرط في الطبيعة ضعفاء أمامها، حتى إنها تهدّدنا هي بدورها لتسيطر علينا. فمن خلالها ومعها وداخلها نقتسم القدر نفسه. وأكثر من كوننا نملكها، ستملكنا هي بدورها، كما في القديم، عندما كنّا نخضع للضرورات الطبيعية، لكن مع فارق نوعي: في الماضي، كان الخضوع محلياً، أمّا اليوم فسيكون عالمياً. لماذا ينبغي لنا، منذ الآن، البحث عن التحكّم في تحكّمنا؟ لأن تحكّمنا لم يعد منضبطاً ولا مقنّناً، ويتجاوز هدفه، بل أصبح ضد الانتاج. لقد انقلب التحكّم الخالص على نفسه".
وفي لغة هيدغرية، يمكننا أن نقول: "يتوجّب على الفانين بدءاً وباستمرار، البحث عن جوهر السكن. يتوجّب عليهم أن يتعلّموا في البدء كيف يسكنون". (مقالته "البناء، والسكن والتفكير"، 1951). ولربما يتوجّب عليهم بدءاً أن يتعلّموا ما هو أكثر من ذلك، كيف يقتسمون سكنى العالم مع الآخرين، وبلغة أخرى، كيف يتجاوزوا وثنية المكان.هذا ما سينتبه إليه سلافو جيجك، وإن بعيداً عن هيدغر، وهو يتساءل في مقال حول فيروس كورونا ("حلمي عن ووهان"، صحيفة "دي فيلت" الألمانية، 22. 01. 2020): "لماذا هذا الهوس بفيروس كورونا اليوم، وقد عرفت مناطق من العالم فيروسات أكثر خطورة والآلاف من البشر يموتون يومياً بسبب أمراض أخرى؟"، لكن إذا وافقناه الرأي في مشروعية هذا السؤال، فإننا لا نقتسم رأيه الذي يقول بحاجتنا إلى "شيوعية جديدة" من أجل تجاوز هذا التدمير الرأسمالي المستمر للعالم، لأن الشيوعية هي الأخرى، ابنة العقل الديكارتي الذي يقوم على التحكّم والتملّك، كما وصفه ميشيل سير.
سينشر آجامبن في اليومية الشيوعية "المانفستو" (عدد 26 فبراير، 2020) مقالاً حول الفيروس الجديد بعنوان: "حالة الاستثناء التي أثارها طارئ غير حقيقي"، وفيه يعتبر الفيلسوف الإيطالي بأن الأمر يتعلّق بفيروس أخطر قليلاً من أنفلونزا عادية، وأنّ الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإيطالية مبالغ فيها، بل هي نتيجة لنية مبيّتة، تهدف إلى توسيع مدى السيطرة على المواطنين والحد من حريتهم.
إنّ مقاله يذكّرنا بما كتبه في "حالة الاستثناء"، الذي ظهر بُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، مؤكّداً أن حالة الاستثناء التي يتمّ فيها تعليق العمل بالدستور أو القانون، أضحت حالة دائمة، وليست استثنائية، إذ حسب آجامبن، فبعد استهلاك سردية الإرهاب كسبب لاتخاذ إجراءات فوق أو خارج القانون، فإنّ اختراع فيروس جديد، يمكن أن يوسّع من مدى السيادة بشكل يتجاوز كل حدود. لكن المقارنة هنا بعيدة عن الواقع، فصناعة الإرهاب موجّهة، ومتحكّم فيها، وهو ما لا يمكن أن نقوله عن فيروس كورونا.
وفي الواقع، فإن الأمر في رأينا، أكبر من مجرّد حالة استثناء عادية، ونظرية آجامبن لن تسعفنا لفهم هذه الظاهرة الجديدة ولا تلك الظواهر الأخطر التي تنتظرنا في المستقبل، والتي لن تهدد فقط بإلغاء السياسة. بل سنكون مضطرّين هذه المرّة، ومن هنا فصاعداً، أمام حالات الاستثناء القادمة، إلى أن نضع الطبيعة وحقوقها، وليس السيادة، فوق القانون، وفوق حقوق البشر أو بالأحرى حقوق السوق، إن الطبيعة تجبرنا اليوم على أن نصغي لها في تواضع، وأن نختار بين الوجود أو التملّك.