الثقافي

سعيد خطيبي يكتب عن اختفاء المرأة الجزائرية!

لا يزال الحديث عن تجاربهن بصيغة الماضي

أوضح مقال للروائي والمترجم سعيد خطيبي، أن الجزائر كانت تُعرف بنسائها، بطاووس عمروش وآسيا جبار في الأدب، يمينة شويخ وجميلة صحراوي في السينما، كانت تعرف بنسائها المناضلات، الجميلات الثلاث (بوحيرد، بوباشا وبوعزة) والأخريات، بعائشة حداد في الفن التشكيلي، وردية وبيونة في الكوميديا، كان اسم البلد يُكتب بتاء التأنيث، كانت حسيبة بولمرقة تركض ولا تلتفت إلى الخلف كي تكسب الذهب في الألعاب الأولمبية، بينما الجزائر تنحدر إلى الجحيم بداية التسعينيات، المناضلات اليساريات كن يملأن الشوارع صخباً ولافتات من أجل حقوق مواطنتهن، كان صوت الريميتي في الغناء لا يهدأ مثلما لم يهدأ صوت حدة بقار إلى أن فارقتها الروح، ونسوة أمازيغيات يُقاومن السلطة أحادية اللسان، ويُراوغن دفاعاً عن لغتهن وهويتهن، كان «الفيمينيزم» ممنوعاً، لكن حلقات سرية تشكلت حينذاك، كان للمرأة حق في أن تخرج إلى الفضاء العام كما شاءت، ووقتما شاءت، بدون أن يفرض عليها أحد شكل هندامها أو يمنعها من التعطر، أو لبس ما ترغب فيه، كانت الشواطئ متصالحة مع البكيني ولا رقيب على حريتهن.. كل هذا «كان»! في جزائر من ماضٍ ليس بعيد، قبل أن تنقلب الصورة إلى نقيضها، تتوارى المرأة إلى الخلف، وتكاد تختفي! فلماذا يخافون من رؤية النساء ويسعون إلى محوهن من الأنظار؟

وأضاف: " من المفارقة أن مؤسسات تتبع وزارة الثقافة تميل إلى عزل النساء، بدون أن يحتج أحد إزاء هذا الوضع، فقد أحيلت المرأة إلى زاوية بعيدة، كمن يوضع في حجر صحي، صرن أقلية في ميدان الثقافة، أو بالأحرى أرغمن على ذلك، يتلقين الإنتاجات أكثر مما يُساهمن في صناعتها، لقد تحولت علاقة المرأة بالثقافة في البلد، إلى العلاقة التي يرسمها لها رجال الدين المتطرفون، ففي شرائعهم، لا تُقبل المرأة سوى في حالتين: زوجة أو ابنة، وفي كل الحالتين ينظرون إليها كتابع، لا فردا مستقلا، وهو ما يحصل في الثقافة، حيث لم تتحرر الجزائرية من السطوة الذكورية، وبدل أن تلعب الثقافة دوراً في هدم التطرف الديني والفصل بين الجنسين وتحريرها، فإنها في غفلة منها تعيد تدوير الذهنية الدينية نفسها. والحال لا يختلف عن بقية قطاعات المجتمع، فقد انحصر دور المرأة في الإنجاب والإرضاع والعناية بالأطفال، والزواج هو المؤسسة الوحيدة التي صارت تستقبلها، وتتقبلها، قبل أن تحتجزها في نمط حياة يفصلها عن ماضيها، وأن تقبل الزواج يعني أن تتخلى عن كامل حريتها، وتنتقل إلى منطقة الضعف، أن تترك أحلامها ورغباتها عند باب الزوجية، وعلى المجتمع في هذه الحالة أن يخفف من طموحاته، أن يخفض السقف، ولا يتوقع كاتبات ولا شاعرات ولا سينمائيات ولا مسرحيات ولا مبدعات في أي مجال، فقد تحالفت الدساتير التي اتفق عليها الجزائري على حجز المرأة لا التعامل معها كند أو نظير".

مشيرا أن: "لا نزال نتحدث عن نسوة الجزائر بصيغة الماضي، نتذكر بطلات ونجمات سابقات، كاتبات وفنانات، نستحضرهن في كل مناسبة ونتأسف عن حالنا اليوم، كما لو أن سيرورة البلد قد توقفت قبل ربع قرن أو يزيد، كما لو أنه بات عاقراً".

الفضاء السياسي في الجزائر يُشبه إلى حد ما «كوزا نوسترا» بحكم أنه فضاء ذكوري، وبالكاد نجد امرأة واحدة كسبت مرتبة سياسية متقدمة، منذ الاستقلال إلى غاية اليوم، فالحكم شأن رجال، أو هكذا يظنون، والوزارات السيادية توزع ـ حصراً ـ على رجال، بينما تحوز نسوة، من حين لآخر، على بعض الوزارات، من باب «العطف» أو ترويج صورة مغالطة عن المساواة للخارج. إن احتكار الذكورية للقرار السياسي لم يتأت من عدم، بل يعكس الخيار الاجتماعي وميول الناس، إن السلطة التنفيذية في الجزائر ليست سوى صورة مصغرة عن السلطة الاجتماعية، حيث صوت المرأة لا يزال مقموعاً، وكلما انبثقت جمعية محلية للدفاع عن حقوق النساء، وتجرأت مناضلة للخروج إلى العلن، ورفعت شعارات نسوية، ينظر إليها نظرة ازدراء، وإن كان القانون يحميها، فهناك من لا يقر بالقانون، ويعتبر أن جنسه، وكونه رجلاً، هو القانون الأسمى في تعاطيه مع المرأة، لذلك لا نتفاجأ من أرقام تعنيف النساء، كل عام، فقد تربى الجزائري، منذ نشأته، على أنه هو القانون، وهو الحاكم إذا تعلق الأمر بصلته بالنساء.

تطفو صورة وردية عن الجزائر في الخارج بوصفها بلدا يحترم حقوق المرأة، وأن النساء فيها لهن من الحرية ما تحسدنهن عليه جاراتها في دول أخرى، بينما الواقع يقول إن المرأة الجزائرية لا سلطة مطلقة لها خارج الأمومة، بينما علاقتها بالفضاء العام لا تزال محتشمة، واستبعادها لا يزال مستمراً، وحين تدخل سوق العمل فقد رسمت لها الحدود مسبقاً في ممارسة الوظيفة لا أن تكون رئيسة للعمل، سوى في حالات قليلة، وعليها أن ترضى بالبقاء في أسفل السلم، وأن لا تفكر في امتلاك القرار، ولا أن تكون هي صاحبة العمل، إنها مسيجة بتلك الأفكار الاجتماعية، التي قاومت الزمن وكل محاولات التحديث، تلك الأفكار التي تناقض بين المرأة والسلطة، ويتوافق الجميع، بدون وعي منهم، في إعادة بعث التطرف في أكمل صوره.

مع بداية الحراك الشعبي، السنة الماضية، خرجت المرأة إلى الشارع، عجت مواقع التواصل الاجتماعي بصورهن، علت خطابات الاستحسان، وظننا أن المرأة قد خرجت من «الحجر» ولن تعود إليه، وإن الحراك إذا بلغ منتهاه ونجح فسوف تصير شريكاً في الحكم، لكن حصل العكس، لم تلبث أن تراجعت إلى الخلف، بل دُفعت للتراجع، سُحب البساط من تحت أرجلهن، ووجدن في مواجهتهن ليس نظاماً سياسياً هرم وشاخ، بل مجتمعاً ورث عنه الممارسات، ولا يغفو له جفن بدون استبعاد المرأة من الفضاء العام، وأفضى الحراك إلى ما أفضى من نتائج السياسية، أحدث شيئاً من التغيير، لكنه عجز عن مد يد للنساء وإخراجهن من العتمة إلى الشارع، عجز عن النظر إليهن بصفتهن راشدات، لا قاصرات.

لا نزال نتحدث عن نسوة الجزائر بصيغة الماضي، نتذكر بطلات ونجمات سابقات، كاتبات وفنانات، نستحضرهن في كل مناسبة ونتأسف عن حالنا اليوم، كما لو أن سيرورة البلد قد توقفت قبل ربع قرن أو يزيد، كما لو أنه بات عاقراً، نحكي عن الزمن الذي كنا فيه، وقد عجزنا عن تأسيس زمننا الجديد، ندعي المدنية، بينما نعيد تدوير الذهنية المتزمتة، التي ترى المرأة قاصراً، وتحرم عليها الاقتراب من الفضاء العام.

من نفس القسم الثقافي