الثقافي

أمين معلوف بين ذاكرته وسيرة الأسماك الصغيرة

يعتقد أنّ الجنوح الذي تشهده البشرية في أيامنا الراهنة قد ولّده التغيير الذي أحدثته الثورات المحافظة

 

لا يتوقفُ المثقفُ اللبناني/الفرنسي أمين معلوف عن إمتاعنا بما يكتبه، فالرجلُ في كلّ كتابٍ يؤكّد أنه من بقايا مثقّفي العصر، الذين ما يزالون يعيدون تقميش ورواية الأحداث، وذاكرة القرن العشرين، بأسلوبٍ يمزج بين الروائي والذاتي والمعرفي.. ففي كتبه يشعر القارئ بحيرةٍ، فليس هو نصٌّ في التاريخ أو في الفلسفة أو عن السيرة، بل هو كلّ ذلك، نصّ ربما بتنا بأمسِّ الحاجة إليه هذه الأيام في ظل بعض الكتابات التخصصيّة الجافة، التي لم تعد قادرة على رسم صورة كاملة عن ما حدث، أو ما نعيشه اليوم.

في كتابه الجديد، الذي اختار له عنوان «غرقُ الحضارات» والمُترجم حديثا للعربية، ترجمة نهلة بيضون، يحاولُ معلوف إكمال ما بدأه في مشروعه حول «الهويات القاتلة»، ولاحقا في كتابه «اختلال العالم» الذي صدر عام 2009 بنسخته العربية، إذ بدا يومها، وفقا للعديدين، متشائما حيال ما يعيشه العالم من تطورات تقنية ومالية، كانت تقذف بعوالم الثقافة والأيديولوجيا وأفكاره للخلف، لتتقدم فاسحة المجال لنوع آخر من العلاقات الاجتماعية، بدت أحيانا أكثر فردانية، وأحيانا أخرى أكثر ميلا لعصر القبائل (السنة والشيعة في العراق بعيد 2003). لم يكن معلوف يتصور ربما، أو ربما لم يخطر على باله يومها، أنّ هذا العالم سينفجر على مصراعيه في مدن المشرق، قبل أن تسقطَ، أو بالأحرى، تدمّر واحدة تلو الأخرى، أو لعلّه لم يتوقع أن يشهد أو يعيش ما عاشه صاحبه ليون الافريقي، الذي نقل لنا المشهد الأخير الذي سبق سقوط غرناطة. بيد أنّه هذه المرة وعوضا عن الاستعانة برحالة آخر، أو بائع كتب كما فعل الروائي العراقي سعد رحيم، ليرسم لنا الأحداث الأخيرة، قرر امتطاء جواد ليون، ليعود بنا إلى ذاكرته وطفولته، علّه يستطيعُ من خلالها تفسير أسباب سقوط مدنٍ مثل بغداد، وطرابلس، والقاهرة ودمشق وغيرها.

إذن فكتابه الجديد، هو أقرب ما يكون لحكاية الشاب معلوف، الذي وُلِد في عالمٍ عربي كوزموبوليتاني، قبل أن تأتي رياح الأيديولوجيا وزعماء الطوائف اللبنانية، ولاحقا الثورات المحافظة في ثمانينيات القرن العشرين، لتحوّله إلى عالمٍ ضيق، أو بالأحرى إلى مزرعةٍ للأسماك، كما وصفها أحد أصدقائه المؤرخين، حيث لكلّ سمكة صغيرة سمكة أصغر منها، تقوم بابتلاعها، ولعلّ هذا ما بات عليه واقع الشرق وهوياته وحروبه التي لا تتوقف.

وكما ذكرنا، يحاولُ معلوف بأسلوبه الشيّق في الكتابة، النظرَ في أسباب ما آلت إليه الأوضاع في عالمنا، لكن من خلال تقنية أو لعبة سرد ذكرياته. هنا تغدو الذاكرة أو السيرة الذاتية ملعبا آخر لكتابة تاريخ عالمي للأفكار في النصف الثاني للقرن العشرين. أوليس التاريخ الجديد كما يراه المؤرخ الفرنسي بيير نورا قد تطوّر في الغالب من خلال التذكّر.

سيروي لنا معلوف عن قصة ولادته، «فقد أبصرت النور في 25 فبراير/شباط 1949..» بعد أسبوعين تقريبا من اغتيال حسن البنا مؤسّس حركة الإخوان المسلمين، على يد عنصرٍ تابعٍ لأحد أقسام الشرطة. كانت المواجهةُ بين التنظيم الإسلامي وسلطات القاهرة مستمرة منذ عشرين عاما. ورغم أنه ولِد في بيروت، إلا أنّ عائلة والدته؛ كآلاف العائلات اللبنانية؛ كانت تعيش في مصر. فقد تزوّج جدّاه من أمه في مدينة طنطا نهاية الحرب العالمية الأولى، قبل أن ينتقلا للعيش في هليوبوليس، المدينة الجديدة التي أُنشِئت جوار القاهرة، بمبادرة من أحد الصناعيين البلجيكيين البارون أمبان. بدا وضع العائلات اللبنانية جيدا، فغالبيتهم استطاعوا بناء قصورٍ ومصانع ومحلات، ممن سافروا خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ومنتصف القرن العشرين. فقد مثّلت «أم الدنيا» لهم آنذاك خيارا أفضل من خيار الهروب إلى البرازيل أو أمريكا، التي هاجر إليها قسمٌ كبير من اللبنانيين في فترة القرن التاسع عشر.

في الخمسينيات، أخذت القاهرة بفنّانيها ومغنّيها، وبالأخص صوت أم كلثوم، تتجاوز حدودَ البلاد، في المقابل كان طه حسين، الشاب الكفيف، يدعو الباحثين العرب إلى إعادة دراسة التاريخ بأدواتٍ علميةٍ جديدةٍ.. كان من المتوقّع أن يعيش معلوف ويترعرع في عالم الفردوس هذا، لكن صدف التاريخ ربما، وأسراره التي عادة ما تفاجئنا، ستطيح بالملك فاروق، الذي لم يكن آخر ملوك مصر وحسب، بل مثّل رحيله نهاية مرحلة القاهرة أو الإسكندرية المتعدّدة ثقافيا وعرقيا.. إذ سيقودُ «الضباطُ الأحرارُ» معركة ضارية ضد المجتمع الكوزموبوليتاني الذي عرفته القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين.. لعلّ في كلام معلوف ما يذكّرنا بكتاب المؤرخ الكوسوفي السوري محمد الأرناؤوط حول ألبان مصر، وكيف كان قدومُ آخر رجال باشا المتحوّلين ضده، نهاية لوجود الطريقة البكتاشية (الذي مثلت آنذاك مركز الألبان في العالم) لتكتب آخر كلمات في حياة الجالية التي حكمت القاهرة لقرون طويلة. بدت مصر المتنوعة وكأنها تموت آنذاك، وتشهد نزوحا جماعيا لجميع الطوائف التي قيل عنها أنها متمصرة. ورغم أنّ أسرته ستضطر إلى بيع ممتلكاتها بأبخس الأثمان لضابطٍ مصري، سيبدو معلوف لاحقا أقلّ حدة حيال حكمه على رجل مصر العظيم، فالرجل (عبد الناصر) جاء في عصر التحرّر الوطني والنضال ضد الاستعمار، أسلوب عيش ارتبط به، ولم يكن الوقت يسمح بالتفكير خارجه ربما.

في بيروت الستينيات، كانت عينا معلوف تتفتحان. أخذت هذه المدينة تحلّ محلّ القاهرة وصحفها، في حين كانت التمزّقات السياسة والانقلابات لا تهدأ في سوريا، وفي كل هزّة يمر بها، كان المهزومون يسلكون طريق المنفى إلى لبنان، من ضباط، ومسرحيين، وسياسيين، وصناعيين، ومفكّرين وفنانين. مما يذكره عن تلك الفترة، أنّ أسرته احتفلت عند إعلان انقلاب 1961 على الوحدة، فقسم كبير من اللبنانيين كان يخشى الوحدة. سينضم في عمر الثامنة عشرة والنصف تقريبا للحركة الشيوعية، قبل أن يتركها بعدها بعام تقريبا، بعد أن أدرك «أن طبعه لا يمكن أن يتحوّل إلى طبع ناشطٍ أو تابعٍ لعقيدة، فغادر بهدوء، بلا ضجيج، ولا ندم، أو مرارة».

في العام ذاته أيضا، أُعدِم شنقا الرئيس الباكستاني ذو الفقار علي بوتو، على يد العسكريين الذين كانوا يتهمونه بمناصرة الاشتراكية والعلمانية، كما قررت الولايات المتحدة تسليح المجاهدين الإسلاميين الأفغان سرا. وبالعودة إلى نتائج الثورة الإسلامية، يرى معلوف أنّ هذا الحدث مثّل بداية لاستيقاظ الأحقاد الطائفية، وهذا ما انعكس على بلدٍ صغيرٍ مثل لبنان، وبالأخص على الطائفة الشيعية وعلاقتها بالسنة، ففي فترة شبابه لم يكن واردا أن نعيش هذا التوتر، فاللبنانيون الشيعة كانوا يسكنون في مناطق فقيرة، وكان ذلك يحثهم بالدرجة الأولى على الانخراط بأعداد كبيرة في الأحزاب اليسارية إلى جانب العمال الآخرين، لا على المطالبة بحقوقهم باسم طائفتهم. ربما في كلامه ما يذكّرنا ببعض القراءات التي أخذت تميّز بين وجود الطوائف، والطائفية التي أخذت تزدهر في مدننا جراء عوامل وأحداث سياسية.

اليوم، وبعد مضي عقودٍ، سيبقى معلوف يعتقد أنّ الجنوح الذي تشهده البشرية في أيامنا الراهنة قد ولّده التغيير الذي أحدثته الثورات المحافظة، سواء على مستوى رؤيتها للسلطات العامة، أو علاقة الهويات ببعضها، قبل أن يمرّ الطوفان على مدننا، لتسبح الأسماك الصغيرة، وتأكل بعضها بعضا إلى ما لا نهاية.

من نفس القسم الثقافي