دولي
خطاب عباس.. الإيضاح واجب والتصحيح أوجب
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 25 فيفري 2020
ألقى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، خطابا أمام جلسة مجلس الأمن الطارئة يوم 11 فبراير/ شباط الحالي، لبيان موقفه من "صفقة القرن"، والرد فيها على الشق الثاني من هذه الخطة الاستعمارية الكبرى لتصفية القضية الفلسطينية، والتي تبنّتها الولايات المتحدة الأميركية، وتضمنت معطيات استعمارية، لم يسبق أن "أبدع" استعمار سابق في هذا التفصيل والتجريد والتجريف.
جاء الرد الفلسطيني مذلاً وفاضحاً وهزيلاً. ولكن هذا ليس قصد هذه المقالة، إنما هو استدراج إيضاح من الجهات الرسمية الفلسطينية بشأن ما ورد في كلمة الرئيس من تعابير تستخدم لأول مرة في الخطاب الرسمي الفلسطيني، وتتمثل خطورتها فيما قد يترتب عليها من آثار ونتائج قانونيه سلبية على الحقوق الفلسطينية الأساسية، ونحن نعلم تماماً مدى التقاط العدو الصهيوني مثل هذه السقطات.
لأول مرة، يرد في خطاب رسمي فلسطيني، وعلى أي مستوىً كان، وصفٌ للأراضي الفلسطينية المحتلة، ما قاله الرئيس أبو مازن: "لنعتبر أن أراضينا مختلف عليها، أنتم بأي حق تضمونها" (وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"). هذا قول خطير، سيما أنه صدر من مرجع رسمي بمرتبة الرئاسة، ذلك أنه يرتب آثاراً قانونية في غاية الخطورة، وهي محاولة لم تتوقف "إسرائيل" عن اصطيادها منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في 1967. وقد انشغل أساتذة قانون دولي في الجامعات الإسرائيلية ومناصروهم من أساتذة في جامعاتٍ أجنبية في وصف الأراضي الفلسطينية المحتلة بأنها "أراضٍ متنازع عليها"، لكي يبرّروا استعمارها بدون قيود تفرضها مبادئ القانون الدولي. وقد طرح قانونيون إسرائيليون نظريةً مؤدّاها أن وجود الأردن في الضفة الغربية كان وجود "احتلال"، وبالتالي فإن الوجود الإسرائيلي أفضل من الوجود الأردني، أو ليس أقلّ منه. وقد ورد قول مماثل في "صفقة القرن" التي عدّت أن وجود "إسرائيل" في الأراضي المحتلة جائز قانوناً، لأنها اكتسبتها في "حربٍ دفاعية"، وهو أمرٌ له تبريراته.
وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية، مناحيم بيغن، قد اقترح على الرئيس المصري، أنور السادات، هذا الوصف على الأراضي المحتلة في مفاوضات كامب ديفيد (1978)، ولولا حكمة الفريق القانوني المصري لتورّط السادات في القبول. وقد تملص وزير الحرب الإسرائيلي، موشيه دايان، من إجابة وزير الخارجية الأميركي، سايروس فانس، على موقف "إسرائيل" من الأراضي المحتلة في أكثر من مناسبة، ولم يعلن دايان أنها أراضٍ محتلة.
السلوك الإسرائيلي في استعمار الأراضي المحتلة هو سلوك من ينظر إليها، وكأنها بلا شعب وبلا أهل. هي أرضٌ مستباحة، وجدها "الكاوبوي" الإسرائيلي، كما اكتشف الكاوبوي الأميركي مناطق غرب الولايات المتحدة. وكان الكاوبوي الشاطر هو من يسارع إلى تسييج مساحة تكون له. والفرق الوحيد هنا أن الاستعمار الصهيوني أكثر ضبطاً ومؤسسياً من الحالة الأميركية التي كانت منفلتة. ولهذا فإن المخاطر التي ينطوي عليها تعبير "أراضٍ متنازع عليها" واضحة، ويتحين الكاوبوي الإسرائيلي التقاطها والتمسّك بها.
الفرق بين وصفي "محتلة" و"مختلف عليها" واضح، حيث يحرّم القانون الدولي على دولة الاحتلال أن تتملك الأرض التي تحتلها، وهذا مبدأ ثابت من مبادئ القانون الدولي، بينما الثانية تكون محط خلاف، ويمكن التفاوض عليها فهي "لنا ولهم" على حدّ سواء. وينطوي قبول هذا الطرح على إهدار شديد لحق فلسطيني أساسي وثابت، ومعترف به دولياً، وهذا مناط الخشية وضرورة الإيضاح.
وهنا يجب اتخاذ إجراءات حاسمة وفورية بشأن ما ورد في خطاب الرئيس محمود عباس، فإن كان قد وقع سهواً أو على سبيل التحدي في القول، على المندوب الفلسطيني لدى الأمم المتحدة طلب حذف هذا الوصف من المحضر الرسمي، باعتبار أن ذلك وقع خطأ أو أنه لم يكن يقصد منه سوى التحدّي، لأن كلمة الرئيس قد تنطوي على معنىً بخلاف ما قصده، ذلك أن وصفها "أرضا متنازعا عليها" يعطي الإسرائيلي حق ضمّها، كما أن للجانب الفلسطيني الحق نفسه طالما هي على خلاف، والأقوى هو من يفرض حقه، ولا أظن أن هذا ما ذهب إليه الرئيس.
وإذا كان ما ورد من وصف أدخل على خطاب الرئيس خلسة ومن دون علمه، يجب إجراء تحقيق جنائي وفوري، واتخاذ الإجراءات اللازمة للتبرؤ منه فوراً وإنكاره، ومحاسبة من أدخلوا هذا النص من دون تفويض، وإذا كانت قد أدخلت بعلم الرئيس (ربما هذا مشكوك فيه) ومعرفته بنتائجها فهنا مصيبة كبرى، إلّا أنه يجب تأكيد أن هذا الوصف لا يملك أحد، مهما علا قدره، على إدخاله على الأراضي الفلسطينية، فهي "محتلة" بحكم القانون، وهي من الحقوق غير القابلة للتصرّف، والتي يصونها القانون الدولي ويحميها الشعب، صاحب الولاية الأصلية على مقدّراته.
نأمل من الرئاسة الفلسطينية إصدار إيضاح فوري، وبيان الملابسات والظروف التي أدّت إلى إدخال هذا الوصف إلى الخطاب الرئاسي؛ ذلك أن عدم الإعلان عن ذلك يعني القبول به، وإذا تمّ القبول به نود أن نعلم من أي سلطةٍ استمدّت الرئاسة قبولها به.