الثقافي

حسان فرحاني: "لا أحرم نفسي إطلاقاً من أي وسيلة سينما"

افتك جائزة أفضل مخرج في "لوكارنو 2019"

 

مع "143 شارع الصحراء"، يجتاز المخرج الجزائري الشاب حسان فرحاني (33 عاماً) اختبار الفيلم الثاني، مُقدّماً أوراق ثبوته كأحد ألمع الأصوات الجديدة في السينما الوثائقية اليوم، ومؤكّداً وعود جوهرته الأولى "في راسي رونبوان" (2015)، أي "في رأسي مدار".

وحدة جمالية لافتة للانتباه، تجمع العملين رغم تباين فضاءيهما واختلاف الطرح، ما ينمّ عن رؤية خلّاقة لديه، ترتكز على تصوير الفضاء (المذبح، الصحراء) وفق تصوّر الـ"ميكروكوزم"، فنرى بفضله تلوينات الشخصية الجزائرية، وهمومها وهواجسها والحسّ المميّز لطرافتها.

ينكبّ فيلمه الثاني على يوميات مليكة، المرأة الستّينية، التي تعيش وحيدة في مطعم شعبي في قلب الصحراء الجزائرية، والتي تستقبل فيه مرتادي الطريق، الباحثين عن استراحة وطعام قبل استئناف الطريق الطويلة. يُقطّر الفيلم السينما الخالصة من مَشاهد تبادل مليكة أحاديث مع ضيوفها تارةً، ومن لحظات وحدتها التأمّلية والحميمة، رفقة قطّتها ميمي، تارةً أخرى. الحسّ المذهل للإنسانية يجعل القطّةَ شخصيةً قائمة بحدّ ذاتها، ويتوقّف طويلاً عند لقطة تداعبها فيها مليكة وسط سكون الصحراء، وهذا يفصح عن أحد أسرار جاذبية "143 شارع الصحراء".

أوضح المخرج في حوار مع "العربي الجديد" يقول حول خلفيات التقاءه بـ"مليكة" فيوضح: بعد "في راسي رونبوان"، أردتُ صنع فيلم طريق، يمزج بين الوثائقي والتخييلي، مع شخصية تهيم في الصحراء الجزائرية. الجزائر بلد شاسع. هناك الكثير لنراه في أراضيها الممتدّة. كنتُ أسلك طريق الصحراء رفقة صديق يُدعى شوقي عماري، ألّف كتاباً رائعاً بعنوان "الطريق الوطنية رقم 1"، سجّل فيه كلّ ما رآه في رحلةٍ انحدر فيها من الجزائر إلى تمنراست. لذلك أردتُ كتابة فيلم الطريق معه. هو حاضر في "143 شارع الصحراء"، تحديداً في مشهد غرفة الزيارة، الذي يحيل إلى السجن. شوقي جعلني ألتقي مليكة، عندما توقّفنا في مقهاها. عندها، كانت نبضة القلب الفورية. شيء ما أخبرني أنّ فيلمي هناك. انتابني إحساس بأنّ عليّ التوقّف هنا، وبأنّ فيلمي في هذا المقهى تحديداً.

مضيفا: "مليكة مدهشة. شخصيّتها أثّرت بي كثيراً. حضر اللقاء أيضاً سائقو شاحنات. مكثنا عندها نحو ساعتين. سألتُ مليكة فوراً: "أيُمكنني صنع فيلمٍ معك؟". لم تتردّد في القبول. بعد ذلك، التقيتُ منتجتي: "دعينا نترك فكرة فيلم الطريق جانباً. أريد فيلماً مع مليكة". أحد الأشياء التي أدهشتني، عندما جلسَتْ قبالة الباب، والباب يشبه شاشة سينما، وهي تحكي ما يجري. أذهلتني هذه الصورة التي تأثّرت بها كثيراً. بعد شهرين، عدتُ إليها رفقة مهندس الصوت. أمضيت نحو شهرٍ ونصف الشهر في تصوير الفيلم".

وأضاف: "ما يعجبني حقاً في قصّة محطّة البنزين كيفية تطرّقك إليها في الخلفية، رغم أنّها رهان مهم في السرد. لا نشعر، كما في معظم الأفلام الوثائقية، أننا بصدد مخطّط ينفرد أمامنا".

وفي رده على سؤال حول التّباين الآخر المثير للاهتمام، مقارنة بـ"في راسي رونبوان"، كامنٌ في أنّ هذا الأخير يعتمد على جمالية الامتلاء، فهناك دائماً لقطات مشبعة إلى حدّ ما باللّحوم والآليات والأشخاص وأغراضهم. بينما يعتمد "143 شارع الصحراء" على الفراغ، وهذا ينعكس على الشعور بخواء يوميات مليكة، أوضح يقول: " هذا فعلاً مُثير جداً للاهتمام. ما أجده لافتاً، رغم أنّي لم أفكر به فوراً، هو أنّ هذين الفيلمين يشبهان الشريط السلبي والإيجابي لفيلم ما: الأول فيلم ليلي، والثاني يجري في واضحة النهار. أركّز في الثاني على امرأة، بينما الأول فيلم رجال. هناك كما قلتَ فراغ الصحراء، وكذلك أفقيتها، مقارنةً بالحركات الرأسية للّحوم في "في راسي رونبوان".

وفي رده على سؤال آخر حول إن كان تعمد لهذا السبب، جاء بهذا الشكل الصادق، قال بالتّأكيد. بعد ذلك، كان هناك اختيار حاسم آخر، يتمثّل في تجنّب الإفراط في تخيّل الصحراء، فمن السهل للغاية التقاط الكثبان الرملية وغروب الشمس... إلخ. لكن، كان عليّ دائماً أنّ أظلّ مُركّزاً على مَعلم الفيلم، الذي تمثّله بناية المقهى، كي أقطع مع الصورة الكليشيه للصحراء. الجميع لديهم تصوّراتهم الخاصة عن الصحراء. أنا أصنع تصوّري، لكن بناءً على رؤية مليكة ونظرتها الخاصّة للصحراء.

من نفس القسم الثقافي