دولي
مقهى الغلابة في مخيم الدهيشة وصفقة القرن
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 22 فيفري 2020
قد يكتبون كل الصفقات على ورق عقولهم المتآمرة، وقد يحلمون بالسيطرة والنهب والهيمنة، وقد يؤلفون كل الروايات وسيناريوهات الحرب والابادة، قد يستخدمون القوة الغليظة او القوة الناعمة، وقد يخدعون كل الشعوب بما يسمى السلام والازدهار الأقتصادي وفلسطين الجديدة، وقد يمارسون كل الاغراءات عن التوطين وتدفق المشاريع التنموية والاقتصادية والتطبيعية، مقابل نسيان الجوع والنكبة والذاكرة، لكنهم على ارض مخيم الدهيشة للاجئين لم يجدوا من يشتري العبودية بالمال والرفاهية، أحرق المخيم الصفقة المشبوهة، خرج المخيم عن الهامش، التاريخ تحرك فوق الرصيف. منذ ان احتسى الشهيد عبدالله تايه القهوة في مقهى الغلابة في مخيم الدهيشة في الخمسينات ومنذ ان انهارت كل مشاريع التوطين وتحطم السياج، ومنذ ان القَى صالح ابو لبن في تلك الليلة قنبلته اليدوية في السبعينات، ومنذ ان امتلأت سجون النقب والفارعة والظاهرية بالرجال، صار دم الشهيد نشيدا في نفحة وعسقلان وفي الشوارع، نهضت كل القرى المنكوبة من تحت الركام، يبنيها حجر الفقراء في المخيمات، يغنيها خليل زقطان في صفوف المدارس البائسة، يكتبها صلاح عبد ربه على اللوح وعلى الرمل والقضبان، يطارد الاولاد الحاخام ليفنغر بالنكافات، المخيم يحاصر تل ابيب وامريكا، المخيم له اساطيل وبحر وذكريات، المخيم يقرأ الاسرار على ضوء بابور الكاز، ومن مقهى الغلابة تنطلق الاعراس والجنازات والمظاهرات ورائحة الورد والنار. عندما رأى الرئيس الامريكي ترامب صورة مخيم الدهيشة من الجو، قال: هذا ليس مخيم انه شكل اسد يربض وحوله الالاف من الاسود، ارتفعت طائرته الى الاعلى وابتعد، لان حجرا انطلق من قلب المخيم وعجل كوشوك احترق فغطى الدخان الاسود وجه السماء، اخرجوا من الارض واخرجوا من الفضاء، قال المخيم وهو يرفع عكازات الجرحى المصابين وأعلام فلسطين وصور الاسرى والشهداء، عندها عرف الرئيس ترامب ان الجالسين على مقهى الغلابة يصطادون جواً وارضاً المستعربين والغزاة الدخلاء. على مقهى الغلابة في مخيم الدهيشة يغني لطفي الاخرس قصيدته الجريحة، يحرك يده المشلولة في كل الاتجاهات، ينزع رصاصة من صدره واخرى من قدمه، يروي لطفي بلهجته المتعثرة سيرة الشهداء في الازقة، كل ليلة هناك اشتباك مع صفقة القرن، الناس لا تنام، هذا الشهيد قتلوه امام البيت عند آذان الفجر، وذاك طرزوه برصاص الدمدم وهو يسعف الجرحى وينقل الادوية، الشبان والنساء فوق اسطح البيوت، جنود الاحتلال يصابون بالجنون، كل المخيم يخرج من مقهى الغلابة، من خيمة او زقاق، من وراء سنسلة او شجرة صبار، هي لغة اللاجئين، الحارات تنادي الحارات، هي اشارات، لا مكان للصفقة هنا، وينادي لطفي الاخرس كل اوجاعه الدفينة ويكتب باصابعه على ارض المخيم: فلسطين ليست عقاراً للبيع يا سيد ترامب. في مقهى الغلابة في مخيم الدهيشة الذي تضخم حتى خرج عن الجدار وابراج الحراسة المسلحة، يتبادل الناس الاسماء والشظايا ويقرأون الوصايا، المشاعر والافكار والحكايات والغضب، البساطة والوعي والدهشة، الحياة والموت، الجداريات والشعارات والنقاشات، ذخيرة ثقافية انسانية لا تعرفها صفقة القرن، الناس في المقهى تتحدث عما يقصر المسافات البعيدة لشعب لازال يرنوا الى القدس البوصلة، يتحدثون عن اجدادهم وآبائهم وما تركوه لهم من روائح البيوت العتيقة، تحت جلود اعمارهم تنام الف سنبلة، الجميع متأهب للخطوة القادمة، لهذا قال الاسرائيليون: اذا فاض مخيم الدهيشة غرقت تل ابيب. خرجت المظاهرة من مقهى الغلابة الى الحاجز الاسرائيلي شمال بيت لحم، وصلت تلك البوابة الاسمنتية المغلقة، هتف المتظاهرون: هذا الطريق سلكه السيد المسيح، سندخل وراءه ونصلي في الكنيسة، هي وصية اليسوع، هي التكامل بين النبوءة والدم والبشارة وحق العودة، المتظاهرون يتمردون على المعازل والجيوب التي رسمتها خريطة ترامب، الوطن متكامل كالأجساد، اولاد المخيم يصلون القدس العاصمة، جنود الاحتلال يطاردون أولاد الدهيشة في شوارع البلدة القديمة، امتلأ سجن المسكوبية بالمعتقلين، أولاد مقهى الغلابة يلتقون مع اولاد العيسوية في الزنازين، يكتبون على جدران السجن: القدس عاصمة فلسطين الابدية، يزرعون في السجن شجرة، يعلنون الاضراب عن الطعام، قالوا للجلادين: دخلتم غرفنا، بطشتم، دعستم على الوسائد والنوم، لم تعثروا الا على مفاتيح احلامنا. في مقهى الغلابة في مخيم الدهيشة غنى احمد ابو سلعوم اغانيه العروبية والمقدسية، وحضر الاب عطالله حنا وبارك بصليبه اجيالاً تزرع الحياة والامل في العتمة القاسية، وصل ناجي العلي المخيم ليكتب حنظلة على الحيطان: نحن شعب فينا الف شعب يشق حدود الغياب ويكسر الدائرة. في مقهى الغلابة في مخيم الدهيشة الناس يحملون اعمارهم على اكتافهم، يحرسون الاسماء ويرسلون الرسائل الى غزة السجينة، هناك بالونات مشتعلة وجمر في رماد الكلمات للشاعر معين بسيسو، وهنا في ساحة المهد يهدون حبيباتهم النجمة قبل الفراق، يختفون في الغيم الابيض في ليلة الميلاد. في مقهى الغلابة في مخيم الدهيشة تتدفق الحرية من الشرايين كي يراها المستحيل، لا وقت في المخيم للموت، كل الوقت موت، وتسمع صوتا يقول: كنا هنا قبل صفقة ترامب بآلاف القرون، جاءت الغزوات والطائرات واندلعت الحروب، وكان الليل حار والنهارحار، كان لنا الصمود والصبر وكان لهم البارود والحديد، كانت لنا الحياة الخالدة، وكان لهم حرب الابادة والغيتو و الدبابة، لم يأخذوا توقيعا على معاهدة استسلام من جثثنا العالية وارواحنا التي تشع في فضاء النشيد، فأي صفقة في هذا الوقت؟ اقرأ يا سيد البيت الابيض آياتنا في جرار القمح واباريق الزيت. في مقهى الغلابة في مخيم الدهيشة كانت الرسائل واضحة: لازالت تنقصك يا سيد البيت الابيض معرفة الطريقة التي يغسل فيها اسرانا الضوء بالملح ليشع في الليالي العظيمة، لازالت تنقصك معرفة قصائد كنعان الفلسطيني ورغوة الموت للشهيد فرحان السعدي في سجن عكا، اشباحنا تكتمل الان لتتضح الجريمة، لا زالت تنقصك يا سيد البيت الابيض معرفة ان هذه الارض لا تجف ينابيعها ولا ترتجف صخورها تحت الجدار او المجنزرة، لا تموت اشجارها تحت اسنان الجرافة او المستوطنة.