دولي
ليس للفلسطيني إلا أن يتمسّك بتراجيديته
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 16 فيفري 2020
ليس أمام الفلسطيني سوى أن يتمسّك بتراجيديته، فهي دليل حريته، وقدرته على الصمود. ليس أمامه سوى أن يواصل أسطورته، كما يحْسُن به: شهيداً تارة، وفدائيا دائما، وعاقلا وسط الجنون العربي الشامل. هو الوحيد اليوم، في أعلى نقطةٍ من عزلته النظامية العربية، القادر على أن يبقى واقفا وسط الانهيار الشامل... ليس أمام الفلسطيني سوى أن يتشبث بتراجيديته، وبمأساته الأسطورية، ففي عالم يتهاوى، وشرق أوسط يتساقط مثل قصرٍ من ورق، لا جبال له تحميه، وترمي معاطفها عليه، كما وعدته ذات شريحة ملحمية من قصيدة محمود درويش، أحمد الزعتر، ولا أوتاد يمكنها، في هبةٍ إلهيةٍ جديدة، أن تعينه على الوقوف. وحده وتدُ نفسِه، وحده معطفُ ذاتِه. والأسطورة اليومية وحدها كفيلةٌ بأن تجعله قادرا على البقاء. لقد عوَّد اللغة على المأساة التي تجعله يعبُر كل فخاخ الاستراتيجيا وشراك الجيواسراتيجيا ومصالح الدول. عوَّد روحه أيضا أن تبقى على الصليب، حتى وهو يرى إخوته، من إخوة يوسف، إلى أبناء عمومتهم، لا يقلّدون فيه سوى الاستثناء اللامجدي، يهودا الإسخريوطي، وهو يبيع دم المسيح ببعض البراميل، أو ببعض الدولارات. ليس أمامه، هو الذي ظل العقلاني الوحيد في معرفة توازنات القرنين الماضيين، سوى أن يستصرخ الروح، ويستصرخ الجنون، ويستصرخ آخر ما تبقى من مسالك وعرة بين عواصم العالم. عليه أن يُسند قابيلَه بهابيلِه اللذيْن ظلا على مسافةٍ من جدار الفصل العنصري، وعلى خريطة أوسلو الضيقة. عليه أن ينقّح بلاغته من بيانات العرب الذين يرون في قليلٍ من التكتيك خيانة، ويعلن فينا جميعا: الخيانة صناعتكم وحدكم.. أما الفلسطيني الوحيد الذي خان فعلا فقد كان اسمه يهوذا، وهو لم يعد منا.
اتركوا للفلسطيني أن يعيش، بعد أن لم يعد يطلب منكم سوى أن تتفرّجوا عليه، وهو يصارع العمالقة في كل منعطفٍ من التاريخ. هو الآن يجد صدى ما يمور في صدره، في لغةٍ أخرى، لغة الإسرائيلي الذي يحب الحق، وليس العربي الذي يسارع إلى أن يخنق صوته في الضمير، وفي الدول. والعرب الذين يقدّمون النقود، ويلهثون وراء سلاحٍ لا يعرف من القتلى سوى الأشقاء، ولا يعرف من الضحايا سوى الإخوة الأعداء
صنعت أميركا الفوضى قبل ترامب، وتستعملها كل مرة في تذويب العرب في تناقضات الجوار تارّة، وتناقضات الطائفة تارّات عديدة. ولا جبهة في الشرق فارغة، يمكن أن تفتح ضد
"صنعت أميركا الفوضى قبل ترامب، وتستعملها كل مرة في تذويب العرب في تناقضات الجوار والطائفية" إسرائيل. كل الجبهات موجّهة إلى الداخل أو الجوار، وإسرائيل لم تكن قويةً مثلما هي الآن: دعك من نزوعات الضحية التي يجيدها الذئب، كلما أراد أن يلتهم خروفا. والعرب الذين اجتمعوا، بدعوة من شقيقهم الفلسطيني، ربما كان عليهم، قبل الدخول إلى اجتماع وزراء الخارجية، أن يقرأوا المحامي الإسرائيلي، مايكل صفارد، صاحب كتاب "الجدار والباب" الذي يفكّك فيه كل دواليب الاحتلال، وهو يتحدث عن الصفقة. كان عليهم أن يُنصتوا إليه هو يقول عن خطة ترامب: "هذه ليست خطة سلام، بل هي خطة ضمٍّ يمكنها أن تقود إلى الحرب، وإذا نفذت في شموليتها، فستفضي إلى الأبارتهايد"، وينصتون إليه وهو يردّد على مسامع محاوريه من يومية لوموند الفرنسية: "سنحصل على هيمنة مستمرة لإسرائيل على الفلسطينيين، الذين قد يحصلون على كيان ما، لكن بدون القدرة على عقد تحالفات أو توقيع اتفاقيات أو مراقبة دخول وخروج الناس والبضائع، كيان محاط كليا بإسرائيل، لا بطريقة مؤقتة كما هو الأمر في الاحتلال، بل بطريقة دائمة". أما المضمون، يرى المحامي الحقوقي أن "إسرائيل ستحصل على كل شيء، وفي الحين، أما الفلسطينيون فقد يحصلون على شيء ما، لكن في نهاية المسلسل".وبالنسبة لأسلوب الإعلان عن خطة ترامب، فقد قدمت دولتان غربيتان، هما أميركا وإسرائيل، وهما تعلنان النتيجة التي وصلتا إليها، والتي تفيد بأن الفلسطينيين بدائيون وليسوا ناضجين
""إسرائيل ستحصل على كل شيء، أما الفلسطينيون فقد يحصلون على شيء ما، لكن في نهاية المسلسل"" للاستقلال بعد، و"عليهم أن ينجحوا في اختبارات وسيطة، يكون البلدان معا حكميها". إنها، بكل بساطة، إعادة استعمال اللغة الاستعمارية الكولونيالية في القرن الواحد والعشرين.
للفلسطيني أن يجد الصدى لصوته في لغة الطرف الآخر، القادر على هامش من الرؤية، لا في لغة الضاد، القائمة على التضاد! الفلسطيني الذي عليه أن يلخص في عزلتِه وبعزلته، عزلةَ كل الأنبياء، وكل الأساطير وكل الملاحم، عليه من جديد أن يجد للحجر قوة الدولة، مع سقوط محتمل للسلطة الخارجة من اتفاقيات أوسلو، وإعلان خروجها من يوميات حزنه الخالد..
سيعود الإبداع الفلسطيني إلى ما يعرفه: الانتفاضة. تلك المسافة بين البندقية وأوراق الاتفاقيات، المسافة بين القبر وطاولة المفاوضات. تلك الساحة التي يستطيع الفلسطيني فيها أن يفتح بوابة لينزل الإسرائيلي من دبابته ومن أسطورته القديمة. ومن رماد العصر الحديث ليواجه داوود الجديد. عليه أن يعيد للعالم تلك البداهة التي تقول، وهو يحلم بالقدس عاصمة محرّرة، إنه قد يفتي بفقه الحرية أنه لا تجوز الصلاة في بقعة محتلة، كما قد يكون عليه الأمر بالنسبة للحرم المقدسي، حرم إبراهيم إذا ما تم ما يريده ترامب ونتنياهو من الصفقة... هذه الصفقة هي عودة الاحتلال إلى صباه، مع فارق كبير، أن الدول المحيطة به لم تعد تسعى إلى أن تكون دولا حقيقية. مع فارق تاريخي كبير: لقد اختفى العرب، وبقي الفلسطيني وحده يريد البقاء فوق أرضه، رفقة عزلته الوجودية الكبرى بين أنقاضهم.