دولي

ليس للفلسطيني ‬إلا أن ‬يتمسّك بتراجيديته

ليس أمام الفلسطيني ‬سوى أن ‬يتمسّك بتراجيديته، فهي ‬دليل حريته، ‬وقدرته على الصمود.‬ ليس أمامه سوى أن ‬يواصل أسطورته، ‬كما ‬يحْسُن به:‬ شهيداً تارة، وفدائيا دائما، وعاقلا وسط الجنون العربي ‬الشامل.‬ هو الوحيد اليوم، ‬في ‬أعلى نقطةٍ من عزلته النظامية العربية، ‬القادر على أن ‬يبقى واقفا وسط الانهيار الشامل... ليس أمام الفلسطيني ‬سوى أن ‬يتشبث بتراجيديته، ‬وبمأساته الأسطورية، ‬ففي ‬عالم ‬يتهاوى، ‬وشرق أوسط ‬يتساقط مثل ‬قصرٍ من ورق، ‬لا جبال له ‬تحميه، وترمي ‬معاطفها عليه، ‬كما وعدته ذات شريحة ملحمية من قصيدة محمود درويش، أحمد الزعتر، ‬ولا أوتاد ‬يمكنها، ‬في ‬هبةٍ إلهيةٍ جديدة، أن تعينه على الوقوف.‬ وحده وتدُ ‬نفسِه، وحده معطفُ ‬ذاتِه. ‬والأسطورة اليومية ‬وحدها كفيلةٌ بأن تجعله قادرا على البقاء. ‬لقد عوَّد اللغة على المأساة ‬التي ‬تجعله ‬يعبُر كل فخاخ الاستراتيجيا وشراك الجيواسراتيجيا ومصالح الدول.‬ عوَّد ‬روحه أيضا أن تبقى على الصليب، ‬حتى وهو ‬يرى ‬إخوته، ‬من إخوة ‬يوسف، ‬إلى أبناء عمومتهم، ‬لا ‬يقلّدون فيه سوى الاستثناء اللامجدي، ‬يهودا الإسخريوطي، ‬وهو ‬يبيع دم المسيح ببعض البراميل، أو ببعض الدولارات. ‬ليس أمامه، ‬هو الذي ‬ظل العقلاني ‬الوحيد في ‬معرفة توازنات القرنين الماضيين، ‬سوى أن يستصرخ الروح، ‬ويستصرخ الجنون، ويستصرخ آخر ما تبقى من مسالك وعرة بين عواصم العالم. عليه أن ‬يُسند قابيلَه بهابيلِه اللذيْن ظلا على مسافةٍ ‬من جدار الفصل العنصري، وعلى خريطة أوسلو الضيقة. عليه أن ‬ينقّح بلاغته من بيانات العرب الذين ‬يرون في ‬قليلٍ من التكتيك خيانة، ويعلن فينا جميعا: الخيانة صناعتكم وحدكم..‬ أما الفلسطيني ‬الوحيد ‬الذي ‬خان فعلا فقد كان اسمه ‬يهوذا، ‬وهو لم ‬يعد منا.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

اتركوا للفلسطيني ‬أن ‬يعيش، ‬بعد أن لم ‬يعد ‬يطلب منكم سوى أن تتفرّجوا عليه، وهو ‬يصارع العمالقة في ‬كل منعطفٍ من التاريخ.‬ هو الآن ‬يجد صدى ما ‬يمور في ‬صدره، ‬في ‬لغةٍ أخرى، ‬لغة الإسرائيلي ‬الذي ‬يحب الحق، ‬وليس العربي ‬الذي ‬يسارع إلى أن ‬يخنق صوته في ‬الضمير، وفي ‬الدول.‬ والعرب ‬الذين ‬يقدّمون النقود، ويلهثون وراء سلاحٍ لا ‬يعرف من القتلى سوى الأشقاء، ‬ولا ‬يعرف من الضحايا سوى الإخوة الأعداء

صنعت ‬أميركا الفوضى قبل ترامب، ‬وتستعملها كل مرة في ‬تذويب العرب في ‬تناقضات الجوار تارّة، ‬وتناقضات الطائفة تارّات عديدة.‬ ولا جبهة في ‬الشرق فارغة، ‬يمكن أن تفتح ضد  ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

"صنعت ‬أميركا الفوضى قبل ترامب، ‬وتستعملها كل مرة في ‬تذويب العرب في ‬تناقضات الجوار والطائفية" إسرائيل. ‬كل الجبهات موجّهة إلى الداخل أو الجوار، ‬وإسرائيل لم تكن قويةً مثلما هي ‬الآن: ‬دعك من نزوعات الضحية التي ‬يجيدها الذئب، كلما أراد أن ‬يلتهم خروفا. ‬والعرب الذين اجتمعوا، بدعوة من شقيقهم الفلسطيني، ‬ربما كان عليهم، ‬قبل الدخول إلى اجتماع وزراء الخارجية، ‬أن ‬يقرأوا المحامي ‬الإسرائيلي، ‬مايكل صفارد، ‬صاحب كتاب‬‬ ‬"الجدار والباب" الذي ‬يفكّك فيه كل دواليب الاحتلال، وهو ‬يتحدث عن الصفقة. ‬كان عليهم أن ‬يُنصتوا إليه هو ‬يقول عن خطة ترامب:‬ "‬هذه ليست خطة سلام، ‬بل هي ‬خطة ضمٍّ ‬يمكنها أن تقود إلى الحرب، ‬وإذا نفذت في ‬شموليتها، ‬فستفضي ‬إلى الأبارتهايد"، وينصتون إليه وهو ‬يردّد على مسامع محاوريه من ‬يومية لوموند الفرنسية: "سنحصل على هيمنة مستمرة لإسرائيل على الفلسطينيين، ‬الذين قد ‬يحصلون على كيان ما، ‬لكن بدون القدرة على عقد تحالفات أو توقيع اتفاقيات أو ‬مراقبة دخول وخروج الناس والبضائع، ‬كيان محاط كليا بإسرائيل، لا بطريقة مؤقتة كما هو الأمر في ‬الاحتلال، ‬بل بطريقة دائمة".‬ أما المضمون، ‬يرى المحامي ‬الحقوقي أن "‬إسرائيل ستحصل على كل شيء، ‬وفي ‬الحين، ‬أما الفلسطينيون فقد ‬يحصلون على شيء ما، ‬لكن في ‬نهاية المسلسل".‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬وبالنسبة لأسلوب الإعلان عن خطة ترامب، ‬فقد قدمت دولتان ‬غربيتان، ‬هما أميركا وإسرائيل، وهما تعلنان النتيجة التي ‬وصلتا إليها، ‬والتي ‬تفيد بأن الفلسطينيين بدائيون وليسوا ناضجين  ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

""‬إسرائيل ستحصل على كل شيء، ‬أما الفلسطينيون فقد ‬يحصلون على شيء ما، ‬لكن في ‬نهاية المسلسل"" للاستقلال بعد، ‬و"عليهم أن ‬ينجحوا في ‬اختبارات وسيطة، ‬يكون البلدان معا حكميها". ‬إنها، ‬بكل بساطة، إعادة استعمال اللغة الاستعمارية الكولونيالية في ‬القرن الواحد والعشرين.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

للفلسطيني ‬أن ‬يجد الصدى لصوته في ‬لغة الطرف الآخر، ‬القادر على هامش من الرؤية، ‬لا في ‬لغة الضاد، ‬القائمة على التضاد!‬ الفلسطيني ‬الذي ‬عليه أن ‬يلخص في ‬عزلتِه وبعزلته، ‬عزلةَ ‬كل الأنبياء، ‬وكل الأساطير وكل الملاحم، ‬عليه من جديد أن ‬يجد للحجر قوة الدولة، ‬مع سقوط محتمل ‬للسلطة الخارجة من اتفاقيات أوسلو، وإعلان خروجها من ‬يوميات حزنه الخالد..‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‬سيعود الإبداع الفلسطيني ‬إلى ما ‬يعرفه: ‬الانتفاضة. تلك المسافة بين البندقية وأوراق الاتفاقيات، ‬المسافة بين القبر وطاولة المفاوضات.‬ ‬تلك الساحة التي ‬يستطيع الفلسطيني ‬فيها أن ‬يفتح بوابة لينزل الإسرائيلي ‬من دبابته ومن أسطورته القديمة.‬ ‬ومن رماد العصر الحديث ليواجه داوود الجديد.‬ عليه أن ‬يعيد للعالم تلك البداهة التي ‬تقول، ‬وهو ‬يحلم بالقدس عاصمة محرّرة، ‬إنه قد ‬يفتي ‬بفقه الحرية أنه لا تجوز الصلاة في ‬بقعة محتلة، ‬كما قد ‬يكون عليه الأمر بالنسبة للحرم المقدسي، ‬حرم إبراهيم إذا ما تم ما ‬يريده ترامب ونتنياهو من الصفقة... ‬هذه الصفقة ‬هي ‬عودة الاحتلال إلى صباه، ‬مع فارق كبير، ‬أن الدول المحيطة به لم تعد ‬تسعى إلى أن تكون دولا حقيقية. مع فارق تاريخي ‬كبير: ‬لقد اختفى العرب، ‬وبقي ‬الفلسطيني ‬وحده ‬يريد البقاء فوق أرضه، ‬رفقة عزلته الوجودية الكبرى بين أنقاضهم.

من نفس القسم دولي