الثقافي

دراسة فنية لمجموعتي “لا بحر في بيروت” و”زمن الحب الآخر” لغادة السمّان

 

تعتبر الكاتبة السورية غادة السمّان من أبرز الكتاب العرب وأغزرهم ابداعا في الشعر والقصة والرواية، وأدب الرحلات. وقراءة غادة السمّان، والوقوف عند أدبها مسألة تستدعي النظر والاهتمام بمنجزها من زوايا متعددة لأنها تجربة فريدة وخصبة قابلة للقراءات، ومفتوحة على جميع الاحتمالات. لذلك ارتأينا اختيار مجموعتين قصصيتين لغادة كنماذج لدراستها فنيا هنا: “لا بحر في بيروت” و”زمن الحب الآخر” بالاستفادة من المهج البنيوي السردي من خلال تحديد موقع الراوي والشخصيات الحكائية (علاقة الشخصيات ببعضها)، والنظام الزمني وبعض دلالات المكان.

 

1/ موقع السارد:

في كل النصوص يقوم السارد بوظيفة أخرى في صناعة الأحداث والمشاركة فيها بوصفه شخصية أساسية، كما أنه يأخذ موقع الأنثى، أي الراوي المؤنث، الذي يبدو من البداية تأزمه وبحثه المستمر عن الخلاص. وإذا كان النقاد قد ميّزوا ثلاث طرق لرواية المحكي بالنظر إلى وضعية السارد فإن الملاحظ على النصوص القصصية لغادة السمّان أنها تنحو نحو ما يسمى بـ (الرؤية مع) حيث يكون الراوي والشخصية في مستوى واحد من العلم بتفاصيل المادة الحكائية، فلا يتقدم أحدهما على الآخر، وفيما يلي جدول يبين وضعية السارد ودوره في النصوص القصصية.

1- مجموعة زمن الحب الآخر:

السارد طبيعته ودوره عنوان القصة

عيوش رواية الأحداث –شخصية أساسية/ ضمير المتكلم أنثى متحررة من الثقافة الليبرالية السطحية- مصطدمة بالرجل الشرقي –مثقفة- (صحفية). الحياة بدأت للتو

خديجة طالبة ثم ممثلة/ راوية (أنثى)/ ضمير؟ وشخصية أساسية-ذات منزع بورجوازي- تمقت الطبيعة الداخلية للرجل الشرقي –ممثلة على مستوى العلاقة الزوجية ببهاء. الديك

بلا اسم علم طالبة في بيروت/ كاتبة –تشعر بالغربة- راوية أساسية للأحداث –شابة جميلة- تفتقد الاحساس بأنوثتها أمام دمار بيروت /ضمير الغائب. ليل الغرباء

غالية أحمد صحفية كاتبة/ رواية للأحداث، مسيرة لها، موجهة للفكرة الأساسية فيها وهي الدفاع عن حرية الزوجة الأنثى في التعبير –تستقيل من المهنة تطلق من زوجها. آخر قصة غير بيضاء

بلا اسم علم (أنثى) أنى راوية أساسية للأحداث ومؤطرة لها –غير متزوجة تنتقد غرابة مشاعر الرجل غير الصادقة القابلة للتغير من امرأة إلى أخرى. بحثاً عن سهول القمر

بلا اسم (أنثى) راوي/ شخصية، تعيس، يبحث عن الخلاص من خطيئة رجل حطمته وتركها. تبحث عن سعادتها في معاشرة عجوز له أولاد ثلاثة لمواجهة القدر والمصير. ذبابتان

نلاحظ –كما ذكرنا آنفا- أن السارد هو أنثى وفي كل الحالات لا تخرج هذه الأنثى عن صفات أساسية هي: المثقفة، المناضلة من أجل تحرير الرجل الشرقي من أفكاره المسبقة والجامدة عن المرأة ودورها المفترض في الحياة، ليست من الطبقة الفقيرة كما أن الرجال الذين يتوجه إليهم الخطاب هم رجال من الدرجة الأولى –إن صحّ التعبير يملكون المال والنفوذ، ولكن لا يملكون الوعي الفكري، ويقفون أمام حرية الرأي والفكر، اليائسة من وضعية الرجل الشرقي، ولكنها مؤمنة بالثورة إلى حد التضحية بمصالحها وسنعود إلى تحليل هذه المعطيات بعد أن نقف على طبيعة ودور السارد في المجموعات الأخرى المشكلة لمتننا.

2- لا بحر في بيروت:

اسم السارد طبيعته ودوره عنوان القصة

سنية امرأة مثقفة شابة –تهوى رجلا متزوجا تعيسا ويذهبان في رحلة خاصة في السيارة إلى غير اتجاه، فينتهي بهما الأمر إلى الموت- الراوي هنا هو الأنثى الشخصية. نداء السفينة

بلا اسم (أنثى) الراوي امرأة لها دور الشخصية الأساسية –ذات بنية جسدية مغرية- لا تجد من يحبها لذاتها فهي لذلك تنتقد هذه النظرة المادية. لعنة اللحم الأسمر

لا اسم له هو رواية ووصف الشخصيات والاشياء والفضاء لا يشارك في الأحداث، بينما يمثل بسام الشخصية المحورية ويعلم الراوي أكثر من الشخصية كذلك متعاطف مع البطل المثقف (أستاذ الفلسفة) الذي يبحث عن المرأة /المثال. أنياب رجل وحيد

بلا اسم (أنثى) الراوي هنا شخصية أساسية تروي الأحداث وتوجهها. عالمة بمصائر الشخصيات الأخرى، تقف ضد الزواج القسري وكذلك الطلاق، لأنه سبب في وجود (الغجريات) الضائعات ولذلك تمتنع عن الزواج بمن تحب وهو متزوج. غجرية بلا مرفأ

بلا اسم الراوي لا يشارك في الأحداث، يقوم بأدواره الكلاسيكية وهي الأخبار أحيانا والوصف، بينما تمثل (ميرنا) الشخصية الأساسية وهي امرأة متزوجة تتنبأ بموت أبيها (نمر) والموضوع نقد المصير الانساني. القيد والتابوت

بلا اسم (أنثى) المرأة هي الراوي والطرف الأساسي في عملية الحكي، طالبة وذات ميول ليبرالية –تريد تعلم الحياة من الحياة وليس من الجامعة لذلك تقرر الهرب من الجامعة إلى الحب. وتكتشف أن الرجل الذي تهواه مخادع. الرجل ذو الهاتفين

بلا اسم الراوي يعلم بكل شيء، ولا يشارك في الأحداث، محايد، بينما البطل هو الدكتور الطبيب النفساني الذي يسقط في هواية متعبة هي الحب ولا يشفى منها، مثقف. هواية متعبة

بلا اسم الراوي لا يقوم بأي دور في الأحداث سوى وظيفة الوصف والتقديم، ويظهر أنه عليم بكل شيء. لا بحر في بيروت

بلا اسم الراوي يقدم ويصف الأحداث والشخصيات، البطل ديبلوماسي (سفير)، يقع في حب امرأة ولا يستطيع أن يتخلص منه. ويبكي الرقم 216

إن الغاية من هذا التمثيل هو أن نطرح مجموعة أسئلة ترتبط بطبيعة الرؤية وهي “الطريقة التي اعتبر بها الراوي الأحداث عند تقديمها ثم من يتحدث إلى القارئ؟ هل هو المؤلف وقد استعان بضمير الغائب أو ضمير المتكلم؟ ثم ما الموقع الذي يحتله الراوي بالنسبة للأحداث، هل يقف خلفها فيدفعها إلى القارئ؟ هل يقودها أم يكون في مركزها”

وبالرغم من المقاربات المختلفة لمفهوم التبئير Focalisation فإن الملاحظ أن هناك طريقتين في الرؤية: الرؤية الخارجية الموضوعية، والرؤية الداخلية الذاتية. ففي الأولى يكون الراوي على الهامش يصف ما يظهر للعيان، ولا يحاول أن يشارك في الأحداث، أما الثانية فهي الطريقة التي يسيطر فيها الراوي على المادة القصصية ليعبر عن الداخلي والذاتي. وإذا ما تأملنا التمثيل الذي قمنا به في الجداول السابقة نلاحظ هيمنة السرد الموضوعي الذي فيه السارد عالما بكل شيء، وكأنه صوت المؤلف الضمني حتى تتناص البنية القصصية بـ(السيرة) الذاتية، وهنا نلاحظ أن جنوح النص إلى الراوي العليم يكاد يهيمن على كل قصص غادة السمّان (95%) وهو ما يجعل قدرة إيصال الرسالة (Le message) التي يقوم عليها النص سهلة إلى حدّ ما، فالكاتبة بنت مشروعا فكريا في ذهنها، ويكاد يكون واضح المعالم وقد ذكرنا بعضها من استخلاصاتنا السابقة، ثم اختارت الشكل المناسب لتبليغ ذلك، وهو الذي يقوم على سارد يحيل على مؤلف ضمني يرغب في تفجير أفكاره التنويرية الجديدة ازاء عالم رجولي مغلق ومحشو بالأفكار الشرفية البالية، كما ظهر الراوي/الشخصية ذا خاصية انثوية ميالة إلى التحرر والانعتاق غير راضية بوضعها المعنوي خاصة على مستوى علاقتها بالرجل.

وتبدو وسط عالم لا يفهم أبعاد تفكيرها، غير واع بتخلفه ورجعيته، وبالمقابل يظهر الرجل في الدرجة الثانية، بالنسبة لحضوره في النص القصصي، وهو ذو نزعة أبوية مسيطرة، يعيش الخديعة والكبت الجنسي والشره للمادة واستغلال الأنثى استغلالا جنسيا. أغلب الساردين الاناث ذوو مستوى تعليمي عال ويشغلون وظائف تدل على الاطلاع والوعي بأهمية النقد والتغيير كالصحافة والجامعة أو يمارسون “هواية” صعبة كالكتابة الأدبية. وهو ما يدل على التماس القوي بين النصوص القصصية والسيرة الذاتية.

وإذا كان الرجل يظهر كذلك فهو علامة تعاطف المؤلف الضمني أو السارد، الشخصية معه، وإذا كان لا بدّ أت نبدي وجهة نظرنا فإن التقارب الزمني في كتابة النصوص في المجموعات المختلفة أظهر مدى التشابه القوي بين النصوص في الموضوعات (Les thèmes) التي تنبني عليها كل قصة، ولكن طريقة عرضها فيها قوة أسلوبية واضحة حيث تكمن جماليتها وليس في الموضوعة في حدّ ذاتها لأنها لا تخادع أفق انتظار المتلقي. وفي كل هذا تسعى النصوص إلى بلورة مفهوم حرية الجسد واستقلال الأنثى، وضرورة تحرير الرجل كذلك من التقاليد الشرقية.

يؤسس النص القصصي في هذا المستوى لصراع بانتصار أو هزيمة وتكمن أهمية هذا الصراع في أنه تناظر موضوعاتي، إنْ على مستوى الكتابة أو الواقع السوسيولوجي والنفسي العربي، وما من شك في أننا لا يمكن أن نغفل الدور الذي قامت به الأفكار التنويرية ابّان القرن التاسع عشر خاصة على يد أحمد أمين، قاسم أمين وهدى شعراوي ثم نوال السعداوي، وفي رأينا ان أفكار غادة السمّان هي متابعة لهذا الطريق الطويل الذي بدأ من هؤلاء، وسيبقى ما دام العالم العربي ما يزال يترنح في التخلف، ثم نجد أهمية أخرى لهذا الصراع في كونه مفتوحا على لنهايات مختلفة، فبعض النصوص تنتهي لصالح المرأة، وبعضها لصالح الرجل وأحيانا تكون عديمة تأتي في شكل انتحاري على نحو قصة (نداء السفينة) حيث تموت شخصيتا الراوي/البطل والشخصية المشاركة في الأحداث. ونلاحظ أن انتصار النهاية للراوي/الأنثى، يتخذ صفات معنوية بانتصار الوعي الأنثوي الثائر على الفكر التقليدي التبعي، وفي ذلك انتصار لأفكار الكاتبة بدون شك. وهذا لا يعني أن الانتصار يأتي هكذا بسطحية ومباشرة خطية مملة بل يتخذ شكلا سرديا تتناقل فيه العناصر السردية من نمطها الكلاسيكي إلى محاولة استعمال “الفلاش باك” على نحو قصة (الحياة بدأت للتو) “الارتداد إلى الخلف السوابق” في مجموعة زمن الحب الآخر، وهذا يفتح المجال أمام البنية الزمنية المختلفة هذا فضلا عن الحوار بأشكاله المتباينة والرمز الاجتماعي• على نحو ما هو موجود في قصة (الديك) مثلا.

ان الذات التي يُناط بها دور المصارع:» تواجه مصاعب وعراقيل، كما قد تلقى تسهيلات ومساعدات، تضع كفاءاتها على المحك وتجعل من الأحداث الواقعة مجموعة متكاملة من المؤشرات الدالة على منحى الصراع بين القوى المتنازعة، وعلى النتيجة النهائية التي تبلغها منه، لا فرق أكانت هذه النتيجة تصب لمصلحة الذات نفسها أم لمصلحة طرف آخر مغاير لها « ذلك لأن الذي يهم ليس من ينتصر وإنما كيف ينتصر طرف على آخر وهو ما كنا نؤد بيانه فيما خلا من الأسطر. وإذا كان من مؤشر على هذا الصراع فإن عنصر الثقافة والوعي بالوضعية النفسية والاجتماعية للبطل/الأنثى، ومعرفته العميقة بالرجل وهو الطرف الآخر في الصراع تشكل أهم هذه المؤشرات. ان “الثورة” التي يقوم بها السارد/الأبطال والشخصيات الأساسية ليست ثورة عنف، انما هي ثورة عقلانية تجعل مساحة الحوار بين الطرفين أكبر، وهو ما حاول السرد القصصي لدى غادة السمّان بلوغه.

تعتبر اللغة المكون الأساسي للنص ومظهر تجلّيه، كما تكشف عن أبعاد تاريخية ونفسية مختلفة، والملاحظة الأولى التي يكتشفها القارئ لقصص غادة السمّان هي »أصالة« لغتها، فهي غير مجتلبة من نموذج كتابي آخر، على نحو ما كان عليه الواقع الأدبي في بداياته الأولى، حيث اعتبرت اللغة المحافظة الكلاسيكية دليل النضج والنبوغ والابداع وما خرج عنها لم يحز رضى النقاد. وفي مستويات اللغة كلها لا نجد إلا مستوى واحدا وهو اللغة العربية الفصيحة التي لا تتباين فصاحتها من شخصية إلى أخرى، بل تحتفظ بمستوى واحد. وهو مستوى يغرق في الاستعارات والمجاز بشكل لافت للنظر، حتى ليشكل علامة من علامات اللغة القصصية لدى الكاتبة، وتقول مثلا في بعض عباراتها: »العاصفة تشرنق المدينة بالمطر والظلمة وزعيق الريح، غرفتي خائفة مدفونة في أحشاء البناء، الساعة تلهث فوق الحائط وتكاد عقاربها تشير إلى الثانية عشرة. مكتبتي المتخمة تتوهج بالتحدي…« وهي لغة تنحو هذا المنحى حيث تكمن جماليتها في قدرتها على توليد المعاني واضفاء طابع التخييل على الصورة التي تود نقلها إلى القارئ بشكل يدل على أن الصورة غير مستقلة عن الشعور والحس الداخلي للكاتبة؛ وإذْ نقول هذا فإننا ننطلق من أن غالبية لغة السرد هي لغة وصفية لا حوارية بينما حدّة التخييل في الحوار الخارجي مثل هذا الحوار في قصة (الدانوب الرمادي):

– ماذا تريد مني؟

– لا شيء أبدا. بصراحة أنا هنا في شهر عسل. تزوجت من فتاة محترمة.

– ماذا تريد مني؟

– أريد ألا تسببي لي أية فضائح، فقد خفت أن تعرفي من السفارة أنني هنا، وتحصلي منها على عنواني.

– ماذا تريد مني؟

– أريد ان اقول لك أن تبتعدي عن طريقي تماما. وألا تحاولي الاحتكاك بي حتى بحجة العمل، لأنك صرت غانية سيئة السمعة.

– لنفترض أنني صرت غانية. لماذا يضايقك ذلك أنت بالذات؟

– كنت أظن أن ذلك يقربني منك …

– أنا رجل محترم تزوج من سيدة محترمة.

– كلمة »محترم« لا أدري لماذا بدت لي نكتة رائعة، محترم…

– يا سيدي المحترم.. حولت حنجرتي إلى مومس، وشاركت في تحويل مؤسسات الاعلام في بلادي إلى بيوتات للعهر.. يا سيدي المحترم المحترم.

– راقبي كلماتك…

– انكم لا ترون في »العهر« فظاعته إلا حينما يتجسد في جسد امرأة… أما عهركم في السياسة والأخلاق والممارسات كلها فإنكم تمرون دون أن يرف لكم جفن يا سيدي المحترم…

– راقبي كلماتك.

– يغلي دمكم لمرأى امرأة توسخ جسدها وذاتها كي تصير مثلكم وتنتهي إليكم، تجنون أمام جسدها المستباح، ولا تحسون بشيء أمام جسد الوطن المستباح … وطني غانية التاريخ… «

وهكذا يمكننا أن نميز مستويين في لغة فصيحة واحدة، المستوى الأول هو مستوى الوصف والسرد والثاني هو مستوى الحوار الخارجي. الأول يتجاوز الثاني على المستوى التعبيري. حيث تبذل المؤلفة جهدا واضحا في صياغة جملة وإنشاء صورة، حيث يبلغ إحساسا بجمال المكان والأشخاص والأشياء، فهو وصف لتقريب المشهد القصصي إلى القارئ وتمكينه من استلطافه جماليا، أما المستوى الثاني فهو مستوى التبليغ، حيث أن الراوي/الشخصية، أو الشخصية الأساسية أكثر ما تبلّغ خطأ بها (الايديولوجي) يكون في لحظات الحوار التي تتحول إلى شكل الجدل والمناظرة وعرض أفكار اجتماعية وفلسفية وسياسية وغير ذلك مما له علاقة بمضمون النص. تستخدم غادة الوصف...يتبع

من نفس القسم الثقافي