الثقافي
صرخة ضد الحرب ودعوة للسلام
لوحة «المرأة العقرب» لليمنية آمنة النصيري:
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 14 فيفري 2020
الفنانة اليمنية التشكيلية والأكاديمية والقاصَّة آمنة النصيري، كسبت شهرة عربية، وتمكنت من أن تضع نفسها ضمن خريطة الفنانات التشكيليات العربيات، رغم عدة عوائق لم تساعدها لتكون حاضرة في معارض عربية ودولية، خاصة منذ 2011، ثم بداية الحروب والصراعات في اليمن، هي ابنة بيئتها، تصر على أن تظل يمنية إلى النخاع، وأن تستلهم من البيئة والتراث الكثير، ليصبح من أهم مصادرها الإبداعية، كما أنها تحاول بريشتها أن تنتصر للمرأة اليمنية بشكل خاص، المرأة في هذا البلد ليس كغيرها، فهي تقاسي وتتألم لتأتي الحرب والصراعات لتزيد همومها وتزيدها عزلة، وتسلب بعض المكتسبات البسيطة التي تحققت، بفعل نضال بعض الحقوقيات، وضغوطات من منظمات دولية.
تنطلق النصيري كفنانة من منطلق أنها مسؤولة، وأن الفن ليس ترفاً، كما أنها تحكي ما قد لا يُسمح به أن يُحكى، وتعود أحيانا إلى عمق طفولتها وتجربتها الذاتية، وما وجدته من صعوبات لتكون على ما هي غليه الآن. أسست في 2009 مؤسسة فنية ومختبرا جماليا أسمته (كون)، لتنمية الذائقة والثقافة البصرية في صنعاء بجهد ذاتي، ولكنها أغلقت بسبب الحرب، كان المركز الثقافي الفرنسي في صنعاء من أهم المتنفسات الفنية، من خلال نشاطاته وكفضاء ثقافي فني نشيط، لكنه هو أيضاً أغلق بسبب الحرب. تظل النصيري في صنعاء، رغم ما حلّ بها من ظروف صحية ونفسية وضغوطات، ولم تهرب كغيرها، وكأنها ميديا العاشقة لأرضها، للشمس، ولكل ذرة تراب ولكنها ترفض إغراء جازون ولا تسحرها قيثارة أورفي.
في مجموعتها «سيدات العالم» ــ أكريلك على القماش ــ نجدها تمزج الروحي بالأسطوري، دون مغادرتها الواقع أو الهرب منه، فكل لوحة كالحلم تشده الألوان، ليلامس الروح بعبق طفولي رقيق، في لوحة لامرأة لا نرى عينيها حيث يغطي شعرها الأحمر أجزاء من الوجه، وتغطي الرأس قبعة كأنها خوذة محارب تأخذ شكلا يشبه ذيل العقرب، هنا الأزرق بخفة شعرية كدهن على الوجه، القلادة تعزز الأنوثة، ويأتي اللباس الذي يوحي بأنه مستوحى من التراث، لتكتمل اللمسة الجمالية بدون مبالغات زخرفية، كأن الفنانة تنقش ما بدواخلها من رقة وجمال وأنوثة، وتكون الخلفية السوداء مناسبة، بمعنى تقوي الألوان كلها وتوحي بدلالات متعددة وتمنحنا نافذة حلم آخر.
كل لون كان يشد مرحباً بما يجاوره ويغني معه، كأننا مع أهزوجة وترانيم يمكن أن نفهمها ونشعر بها، بغض النظر عن لغتنا وثقافتنا وميولنا الفنية، فالمحب للتجريد والسيريالية سيرى فيها حكاية لها مئة فصل، تنحاز للحلم والهذيان، وتخفي أكثر مما تُظهر، ولها تعبيرات داخلية بحاجة لتأمل وتذوق خاص، بعيداً عن تعقيدات نظريات الفن، فاللوحة كصورة تكتسب صفة المشهدية، فهي متحركة كأننا في عالم ميتافيزيقي، قد لا يراه إلا من يستحق ويمتلك الروح الإنسانية الخالصة والمتجردة من تراكمات المادة، كأنها وحي همست به ملائكة طفولية، تشعر بمحنة الإنسان في هذا البلد، الذي لم يعد مرئيا في الأرض ولا في السماء.
النصيري في هذه اللوحة تسكب قصة بالغة التعقيد، لتخلق شخصية لها ملامح أسطورية، ولكنها واقع معاش، تراجيديا حاضرة، المرأة اليمنية وما تتحمله من عناء ومآس، فهي مجبرة على أن تكون الخنساء تقدم أطفالها قرابين لآلهة الحرب التي لا تشبع من أكل الأطفال والشباب، ويريدونها أن تلد كل يوم طفلاً ذكراً، ويريدونه أن يكبر ويحمل السلاح ويذهب للحرب.
الأرض عطشى ولا تجد عرقاً ولا مطراً، فقط الدماء، وهنا يحضر الأحمر ليغطي جوانب الوجه الأنثوي، وقد يفهمه متذوق آخر، على أنه لون الحناء وله جاذبية جنسية مثيرة، فهنا قد لا يكون الدم، حتى مع هذا الإحسّاس فموضوع الحرب سيظل حاضراً، كأن هذه المرأة وكل النساء يصرخن ويهمسن للرجال كفاكم حرباً وبعداً وغياباً وقسوة، ففي الحياة الحب والجمال والجنس واللذة، حتى الرجال الذين يعيشون مع زوجاتهم، فربما عقولهم وأرواحهم في معارك تسلبهم لذة الحب، من يُحّس بالمرأة؟ فهي غير المرئي، وهي التي عليها أن تكون خلف الجدران، وهي من تتحمل غضب الزوج إن كانت زوجة، وقسوة الأب إن كانت ابنة، وحاجات الأبناء إن كانت أماً، عليها أن تتضرع للسماء وتبكي الموتى والمرضى والجوعى، وأن تتخلى عن زينتها وتلبس ما لا لون له مع كل جنازة، في بلد لا يأتيه الحلم إلا نادراً. بماذا سيحلم من يعايش الرعب ويكون ليله مكللاً بالسواد والرعب؟
هذا الذي يشبه ذيل العقرب الملتصق بالقبعة أو غطاء رأس، نسيج يكون فيه للأخضر حضوره الجذاب وللأصفر بسمته، وكأننا مع إشارات لتعويذة بدائية حان موعدها، أنتِ أيتها الراقصة تأهبي لحفل بهيج، أنتِ قرباننا وأنتِ هديتنا للآلهة والشياطين والجن، أنتِ منقذتنا وأنتِ أُضحيتنا، تكاد تكون مبتسمة وكأنها تعلم أنها ستظل خالدة في أذهاننا.
هنالك أعمال فنية يصعب فهمها، ويجب أن يشرح الفنان بعض التفاصيل، مثل هذه اللوحة، تحتاج إلى تأمل وأن تقف مقابلها فقط، سرعان ما ستشعر برغبة لتسأل هذه الشخصية من أين جاءت وإلى أين ستذهب؟ هنا النصيري تخلق دراما وحكايات، لكنها أيضاً تتجاوزها وتحوم حول اللامرئي والميتافيزيقي، ولم تحد شخصيتها بمكان وزمان محدداً، كما أننا قد نشعر بمعنى الوحدة والعزلة، وبالتأكيد فاللوحة لها هتافات ذاتية وزفرة من الداخل للنصيري،التي هي جزء من هذا المجتمع، ومسها الكثير من الضر والألم وهي صرخة فنية ودعوة سلام.