الثقافي

محمد كاديك يرصد آليات الانتقال الأجناسي بين الأنواع الأدبية

الصادر عن دار التنوير في الجزائر مؤخرا

تسعى هذه المقالة إلى قراءة الكتاب الموسوم بـ «من الملحمة إلى الرواية: آليات الانتقال الأجناسي» تأليف محمد كاديك، الصادر عن دار التنوير في الجزائر مستهل عام 2020. ولعل الأهمية تحضر لمن قرأ الكتاب معقودة في الرؤية والمنهج الذي أدار من خلالهما فصول الكتاب والخاتمة، فضلا عن الخطة التي وضع المؤلف من خلالها السؤال، في آليات الانتقال الأجناسي من الملحمة إلى الرواية، وهي آليات تشهد للمؤلف بالصبر، والتمكن في إدارة التحليل والتعليل في مسألة قلما تطرق إليها النقد العربي في ماضيه وحاضره. ينفتح متن الكتاب على أربعة فصول، وخاتمة، ومسرد للمصادر والمراجع، فضلا عن المقدمة الضافية التي استُهل بها الكتاب.

 

الأجناس عند الغرب والعرب

جاء الفصل الأول معنيا بسؤال الأجناس الأدبية عند الغرب والعرب، وقد خلص فيه المؤلف إلى أن الأدب العربي عرف فكرة الأجناس الأدبية وأنواعها، ولاسيما الشكل الملحمي ممثلا في «سيرة الملك سيف التيجان» ثم وقف عند سؤال استنباط النوع الأدبي الجديد، استنادا إلى مقولات قديمة ومعاصرة، تهمني في هذا المقام الإشارة إلى مقولتين عربيتين قديمتين، كان الأجدر بالكاتب الوقوف عندهما، فقد كان لابن رشيق القيرواني رأي قريب من فكرة الانتقال من النثر إلى الشعر قال فيه: «كان الكلام كله منثوراً، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأماجد، وسمحائها الأجواد لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه، وسموه شعراً؛ لأنهم شعروا به: أي فطنوا».

وخاصية الانتقال من نوع أدبي إلى آخر مستحدث قضية أدركها من النقاد القدماء ابن حزم الأندلسي الذي قال : كان (ابن دراج) عندنا قد أحدث نوعاً من البلاغة بين الخطب، والرسائل، وهذا النوع البلاغي يشير إلى ولادة نمط جديد من الإبداع لم يسمه، لكنه كان راغباً في تأكيد حقيقة أن الإبداع يتجاوز الشكل ليدخل إلى مضامين جديدة.

 

الانتقالات الأدبية

وكان الفصل الثاني معنيا بسؤال الانتقالات الأدبية، ففي ذهن الكتاب أن الانتقال كان قد حضر في الخلفيات الفلسفية، التي تعرضت لمفهومه عند كل من كانت وهيغل وماركس، ليخلص إلى أن الانتقال يتموضع ضمن إطار نظري معني بتحليل التغيرات التي تصيب المجتمع، لينظر إليه على أنه صيرورة تغيير ذاتي، تُغذى بالتطور والقطيعة، ضمن مرحلة استثنائية في حياة المجتمع وزمنها، في ظل جملة من التناقضات على أن جديد الأدب المنتقل لا يتقاطع مع القديم بالضرورة، وإنما يكون إضافة لها وزنها الإبداعي، فالانتقال يقترن بمسار التأريخ، في ظل أزمة تدفع بالمجتمع بعيدا عن الشفاهية نحو الكتابة والتوثيق، اللتين عجّلتا بولادة المطبعة والكتاب، وهذا ما حدث في أوروبا من خلال جملة تحولات.

كان الفصل الثاني معنيا بسؤال الانتقالات الأدبية، ففي ذهن الكتاب أن الانتقال كان قد حضر في الخلفيات الفلسفية، التي تعرضت لمفهومه عند كل من كانت وهيغل وماركس، ليخلص إلى أن الانتقال يتموضع ضمن إطار نظري معني بتحليل التغيرات التي تصيب المجتمع

أما الانتقالات العربية فتبدأ من مغادرة العصر الجاهلي إلى عصر الإسلام، مرورا بانتقالات التدوين، وصولا إلى عصر ابن رشد، الذي كان منفتحا على ثقافة أرسطو، التي كانت ولا تزال فاعلة في الحياة الثقافية، ولاسيما في كتابيه المهمين «الخطابة»، و»فن الشعر»، فضلا عن ابن خلدون الذي دخل مضمار قراءة الطبيعة الأجناسية للأدب العربي من خلال مصطلحي (علوم اللسان)، و(العلوم اللسانية) اللذين حاول من خلالهما الاقتراب من فاعلية التشكيل اللساني العربي الدال على منتوجه، وطرائق تمظهره النصي، الذي يحيل في النهاية على انقسام اللسان العربي المنظم على فني: الشعر والنثر.

 

الانتقال الأجناسي

وجاء الفصل الثالث بعنوان (سؤال الانتقال الأجناسي) من خلال مباحث ثلاثة .. مفهوم الانتقال الأجناسي، تأريخ الانتقالات الأجناسية والمنهج الأجناسي. فكان واسطة عقد الكتاب، الذي انفتح على التغيرات التي عرفها الجنس الأدبي، لتكون أداة هجنة في الأدب في ظل غلبة جنس على آخر، والتغيرات ترتبط عادة في أزمات المجتمع، على أن اللحظة الانتقالية تتجلى من زاوية التمثيل واللعب نتيجة الاستمتاع والجدية، بما يمتلك من فاعليات تتحكم في تجديد الخطابات، فالهجنة في الحساب النقدي، رهان مغالطة أجناسية – بحسب المؤلف- تستغل جنسا غير مكتمل لصالح بنيتها العائمة، وقد لاحظ أيضا أن الانتقالات تحدث في لغة النثر، وهذه الملاحظة سبق أن قال بها مسكويه، حين أشار إلى أن الكلام الأدبي لا يقف عند عتبتي الشعر والنثر، وإنما تتوالد فيه خاصية إبداع أجناس أخرى لم يتحدث عنها، لكنه أكد على أنها تقع في النثر.

 

من الملحمة إلى الرواية

ويأتي الفصل الرابع من الكتاب (من الملحمة الى الرواية) وقد بلغ فيه المؤلف قمة الوعي في الاقتراب من سيرورة الانتقال، من داخل نصي الملحمة والرواية، ولا سيما في الجانب العربي، الذي نُعنى به، وقد تبين له أن مسار الانتقال كان ارتجاعيا، حين وازنه بمسار الانتقال الغربي، على أن المؤلف عدّ فكرة التدوين عند العرب، أسهمت في تأصيل ثقافة الكتابة، وبزوغ نجم (النثر) مقرونا بحالة التسامح التي أشاعها القرآن الكريم، الذي بذر فكرة الانتقال في حياة العرب والمسلمين ليبزغ عصر المرويات العربية، التي لم تكن المقدمة الحقيقية لولادة الرواية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بمعنى أن الرواية العربية لم تنشأ على أنقاض المرويات، حين أتاحت الطباعة ظهورها وهي تختزل الثقافة الشفاهية ليكون لها أثرها، الذي صنعته المطابع التي أسهمت في الانتقال من السرديات الشفاهية ذات الطابع الملحمي إلى الرواية.

تجاوزت خاتمة الكتاب الشكل التقليدي للخواتيم التي تلخص النتائج وحسب، حين ارتضت لنفسها أن تعقب على كتاب «رواد التجاوز في الأدب التونسي الحديث» ليوسف الحناشي الذي لم يدخل المتن بسبب قرب وصوله إلى المؤلف، فضلا عن أن المؤلف في تأليف الكتاب لم يكن ليطمئن إلى الأفكار الجاهزة التي دخلت متنه فتناولها بالنقد والتحليل، ولاسيما أفكار المتون الإنكليزية، والفرنسية التي تعامل مع مضامينها بحياد تام كشفت عن وعي قرائي متمكن.

من نفس القسم الثقافي