الثقافي

مدارك القراءة الصوفية وتجلياتها في الشخصية الروائية “خلسات الكرى” لجمال الغيطاني أنموذجا (4)

3-فضاء الشخصية الساردة في معمارية النص

يصل تعداد الفصول المشكلة لهذا النص الإبداعي المتميز الجامع بين روح السيرة الذاتية و بنية الخطاب الروائي في تفصيلاته و تعقيداته الموسوم بدفاتر التدوين و على وجه التحديد الدفتر الأول(خلسات الكرى ) ما يقارب اثنين و عشرين فصلا و عندما نتيح للشخصية الساردة أن تبوح بحكيها و هي توظّف الأنا ضمن مسالك و اعتبارات و مقامات؛ ما يوحي بأنها تريد الانفتاح تارة ثم تعاود الانغلاق على نفسها تارة أخرى ،تفيض بالخواطر و لكن سرعان ما تضيق بها الأرض بما رحبت ؛و قد نلتمس فيها روح التكامل و الاتزان و الحلم و الروية و أحيانا تتصرف بشكل عبثي لا يحكمها منطق و لا استدلال؛ و لأجل كونها شخصية صوفية فهي لا تحتاج إلى تبرير إزاء ما تقوله و ما تفعله لأن ذلك من صميم إيمانها الباطن ؛ ربما قد تمتاز هذه الشخصية الصوفية التي نستهدفها بالانجذاب فهي قابلة لأن تساق و لكن هي قابلة أيضا لأن يساق إليها؛ و قد تعيش حالة الاغتراب و هي تريد أن تعبّر عن ذاتها؛ و لنقل بشكل أو بآخر هو “تعبير عن اغتراب لا هروب منه ؛ذلك أن وعي الاغتراب لا ينفصل عن وعي الفردية المتميزة التي تعيشه ” ؛ و قد تحتكم إلى مبدأ التبعية من المركز إلى المحيط أو العكس ،عنفوانها في تأملها فلا مجال للفصل بين الحلم و اليقظة؛ فكلاهما يشكلان واحدا ،قد تجد فيها صدق النضج و الحكمة البارعة و لكن تجد فيها أنين الطفولة البريئة بكل مواصفاتها ،و لعل تفكيك هذا الفضاء الذي تعيش فيه هذه الشخصية و تتحرك في فلكه و تقتات من أسراره هي معالم نستأنس بها عبر جملة من النقاط التي نراها محورية في النص:

1.3- الرحيل والحنين

إنها مستعدة للرحيل بالقدر الذي يولد في ذاتها أسى المغادرة وفي الوقت نفسه .يزداد شوقها لكي تصل إلى منتهاها أي مقصد السفر ؛ بالرغم من أن الالتفاتة الأولى هي ارتحال عبر الزمن و ما يعنيه لدى الإنسان وهو مقبل على مغادرة الدنيا “و بعد فقد الأحبة ،يكون إدراك الفوت .حتى إذا حلت الخمسون و أوصدت أبواب و أيقنت أن ما تبقى سينقضي كندف الغمام إذ تذروها الرياح ” و التحنين يتحقق حيث يكون الشوق لرؤية عزيز غال و لك أن تدرك هذه المقولة الصوفية السحرية إن صح التعبير “التحنين كما أفهم فهو الحض على الشوق ،و التشجيع على الميل و كلاهما لا يكون إلا من اجل عزيز غال بعيد و هل هناك أعز على المرء من عمره ؟

الشخصية و هي تروي، فهي تغترف من ذاكرتها ،هذا الاشتياق هو اشتياق لذات أخرى كالحبيبة في موضع الصاحبة أو الأم و قبل هذا و ذاك يبقى التوسّل إلى الجمال الأنثوي بكل تفاصيله فيحكي عن عاشقاته اللواتي لم يسعفنه فلم يلق أي حظ منهن كي يرتوي من شفق المحبة و هو يقول بل أصرح فأقر أنهن لا يتجاوزن أصابع اليد الواحدة ،منهن الباسقة و النغمية و الرّويّة و الأنثى الشهابية » و سرعان ما تريد هذه الشخصية أن تعوض فقدانها الملموس؛ بحلم تقتات منه أبهى صفات المحبة ،من جمال هذه الأنثى المعشوقة “عرفت الوافدات علي من حيث لا ادري، من لم يسعين قط عالم الحس .أني من وفدن إلى أحلامي فائتنست بملامحهن و فضت بوجودهن ،و بعثن عندي بهجة غامضة شرحت صدري و فاضى مائي أثناء ضجعتي و صحوت على نشوة غيبية حسية ” إنها رحلة التي تسعى من خلالها الذات الساردة ؛الشخصية الصوفية إلى مغادرة الماضي أو الواقع الحسي المؤلم إلى عالم مستقبلي آخر ، تعتقد فيه أنه أفضل مما سبق حتما عبر مقولة “و كثيرا ما يقص المرء ما تمنى أن يكون لا لما كان بالفعل ،و الأكثر أنه يرى بالتمني ؛ما يمكن أن يكون بدلا من ذلك الذي كان ” إنه بمثابة الطريق الحتمي لانفتاح العقل و توسع المدارك و تفاعل المعارف المتجددة و التعمق في الحقائق للوصول في نهاية المطاف إلى الحكمة المطلوبة .

2.3- التعلق بالجمال الأنثوي

يصف لنا السارد بلغة واقعية معاصرة المرأة التي التقى بها من غير موعد و لا لقاء فسماها بالألف لأن صورتها أشبه بالحرف” أ” بأبهى المزايا و يعطي لنا صفاتها الأنثوية الرقيقة “عيناها خضراوان ،بشرتها سمراء وجهها متسق مع قوامها المبدئي ” إن عشق الأنثى هو مصدر المحبة و مبتغاه فعلى قدر ارتباط العاشق بالمعشوق ،يزداد وثاق الصلة المترامي الأطراف فلا تدري إن كنت حالما أم أنك في عالم اليقظة ؛ فتكتشف على حد تعبير سعيد توفيق “المطلق و اللامتناهي يتجلى و يتجمع و يتألق في لحظة عابرة ،ليغيب و يتوارى عنا بعد ذلك كما لو كان يفلت من بين أيدينا باستمرار و كما لو كنا في ملاحقته و سعينا نحو الاستحواذ عليه ،إنما نسعى بذلك نحو المستحيل ،و هو تثبيت اللحظة و الاستحواذ على اللامتناهي و على المطلق في النسبي و العرض الزائل ” يتأكد هذا الطرح إذ سرعان ما تنفلت منه من غير قصد بل ضاعت منه.

مساهمة خاصة بـ: حفيظ ملواني – جامعة علي لونيسي /البليدة 2

 

من نفس القسم الثقافي