الثقافي

مدارك القراءة الصوفية وتجلياتها في الشخصية الروائية “خلسات الكرى” لجمال الغيطاني أنموذجا (4)

 

هل يحق لنا أن نعتبر جمال الغيطاني صوفيا بالمعنى الحقيقي ،أم أنه يعشق الصوفية فيستمد معالمها في ترتيب نصه الإبداعي ؟ لا نغامر إن قلنا بأن قراءة صوفية جمال الغيطاني هي قراءة في ذاتية الكاتب ،في عالمه الباطني ،في ذاكرته المتوهجة ما يبرر أننا أمام “إحساس عميق ومأسوي بمرور الزمن وتقادم السنين وفوات الأوان. وربما كان ذلك النزوع هو مصدر اهتمامه الملحّ بالتاريخ والأمم الخالية والعصور التي انصرمت. ثمة شعور داهم لديه بقصر الفرصة المتاحة للإنسان على الأرض وبتزاحم الأجيال وتدافعها بالمناكب. ومن هنا جاء مصدر حرصه الشديد على تدوين كل شاردة و وواردة في حياته الزاخرة بالرؤى والأسفار والفرح والمشقات. لكنه لا يأخذ في ما يكتب بطرف واحد من طرفي المعادلة ولا يريد أن يستسلم لنداءات الشقاء الأرضي وحدها. كأن حكمة العينين اللتين أعطيهما الإنسان تقتضي بأن يرى باتزان كلي مصدري الغبطة والعذاب على الأرض ” ألا نجد أثر ذلك في تشخيص اللسان الصوفي ؛بصوت السارد ضمن أقنعة جمال الغيطاني و هو يقول فلما رجعت بعد أن لم أستطع صبرا ،و كيف أصبر على ما لم أحط به علما ،لما اكتمل إيابي فرغت إلى نفسي أستعيد و أسترجع بينما زمن المحن يلوح و يبدو ،و صرت في بوار ،لا تطمئن بي دار و لا يستقر لقراري قرار ،صرت متحركا و ساكنا بعد أن كنت أشبه بطير ،أطير من غصن إلى غصن و الغصن الذي انطلقت منه هو الذي يطير عني ،عدت محدودا بعد أن كنت طليقا ،و كل محدود محصور و كل محصور عاجز رجعت بعد أن كنت الطالب و المطلوب و العاشق و المعشوق فلم يكن رحيلي إلا بحثا عني و لم تكن هجرتي إلا مكني و فيّ و إليّ » و من ثمة فتتأكد هذه القيم الصوفية المبجلة في تصميمها و منظورها؛ فلا يحملها مكانا و لا يحدها فضاء و ليس بمقدورها أن تتنازل عن غذاء الروح ،لا يكشف أدب الغيطاني بسبب لباسه الصوفي المتجذر عن جنسه فقد تحسبه رواية بالنظر إلى تشابك الأحداث و تعدد المغامرات و المناورة بلعبة الزمن و قد تراه سيرة ذاتية محضة مشتقة من يومياته و ذكرياته و ما يُفرح و يُقرح في سجل حياته من طفولته و بيئته الأزهرية و ارتحالاته و أسفاره قد تعدّ الحلقة المتينة من هذه العينة و لذلك تجد إبداعه يأخذ من مختلف أجناس الأدب و أنواعه بالمقدار الذي يريده ” فهناك مقدار لا بأس به من القص والإخبار والسرد، ومقدار موازٍ من السيرة الشخصية التي لا تنتظم في سياق محدد بل تتبعثر وقائعها على غير نسق ونظام. ثمة محاولة من المؤلف لمحاكاة مجرى الوعي الذي يمكن شاشته المضاءة باستمرار، حتى في الاحلام، أن تتنقل بين الأزمنة والأماكن وأن يخبط برقها الخاطف في كل ناحية واتجاه. وفي حين كان يمكنه أن يصنع من قصاصاته المدونة تلك سيرة ذاتية تشبه سائر السير والمذكرات، فقد آثر أن يترك ذلك الخليط الهائل من التجارب والاختبارات الحياتية على طزاجته الأولى وتشتته الزمني.” ما يجعل المتأمل فيه يقتنع فيما أورده سعيد توفيق بقوله نص الغيطاني –خاصة في دفاتر تدوينه الأخيرة نص خادع،إذ تراه يمعن النظر في وصف تجارب عادية مما نألفه في حياتنا اليومية و ذلك من قبيل خبرات الحواس على تنوعها،بل حتى لذة الأطعمة ذاتها فنظن عندئذ أن النص يريد أن يقف عند تجارب الحياة العادية و خبراتها البسيطة ، و لكن هذا المستوى البسيط خادع و من ثم فإن الوقوف عنده يعني أننا لم نعرف شيئا عن عالم الغيطاني الروائي » ما يبين أن مشروع الغيطاني يشتغل في مضمار التجريب الروائي ليس من أجل التجريب في حد ذاته باعتباره غاية و إنما الغيطاني بصدد البحث عن نمط جديد في الكتابة الروائية لا هي تاريخية محضة و لا هي استدعاء للمخيال الأدبي دون وجود الملامح التي تبعث على تفرده فـ”نص الغيطاني لا يستقدم الماضي إلى الحاضر ،و لا يرحل الحاضر إلى الماضي ،بل يتكون في زمن متغيّر و متنام خاصا به ،يتهم حداثة يعرفها ،و يبحث عن حداثة أخرى،يتعرف عليها دون انقطاع ” ،و عليه قد نكتشف أننا أمام تجربتين تلتحمان لتشكل إبداعا من صنف خاص لا يبدو أنه ذاك الشعر الصوفي الخالص و لا هو سرد تاريخي توثيقي محض مع استدعاء الحاضر و هو يسائل الماضي ،فالإشكال الفعلي برمته يتمحور حول طبيعة الصلة القائمة بين “تجربة ذاتية صوفية لها لغة خاصة بها تخفق في فضاء الروح و تجربة حياتية مشخصة قوامها التعدد و التنوع لها بدورها لغة توافقها و بين التجربتين اختلاف لا يقبل الإرجاع و الاختزال” ،ما يفيد أنه يوظف لغة صوفية بمحتواها في قالب تعبير واقعي تؤمّنه حركية الإنسان المعاصر، إنه بصدد بناء نص جديد بحيثيات تراثية و مادتها الأولى قبل أن تكون التاريخ فهي تدابير صوفية إن صح التعبير ؛ و لعل هذا ما يعلل أننا لا نستطيع أن نقرأ النص بمجرد الاعتماد على الحاسة الذوقية التي تشتهي النص بالمفهوم البارتي و إنما تستدعي من القارئ أن يقدم على قراءة فينومينولوجية تراعي بنية الظاهرة و هي في وضع النص من خلال “ثنائية أساسية هي الثنائية النمطية و المادية (الثابتة و المتغيرة)و إن علاقة الإدراك بهذه الثنائية ليست علاقة عشوائية و إنما هي منظمة على أسس لغوية و تركيبية و دلالية ..و يعني ذلك أن المعنى هو خلاصة تلك العملية :بنية الظاهرة و بنية الفهم ” ؛أي أنها تأخذ بعين الاعتبار منظار الذات وفلسفة الموضوع بل لحمة الذات بموضوعها بحيث سيكون مسلك القراءة عبارة عن ترحال لفهم الوجود من موقع الشخصية الصوفية ، مما يستدعي التعرف على أدق تفصيلاتها الممكنة”إن أهم ما يميز الفينومينولوجيا هي أنها طريقة ذاتية في تناول المشكلات الفلسفية و الطريقة الذاتية تدرس كل الأشياء بوصفها موضوعات للخبرة منظورا إليها في سياق الخبرة فقط ،الأمر الذي يسمح لنا بالقول :إنها طريقة لا ميتافيزيقية ،أو أنها تنبذ الافتراضات الميتافيزيقية المسبقة ” فذاك ما يمكن وصفه بالسبيل الوحيد وقد يكون الأوحد لدى أنصار هذا التوجّه لفك ألغاز هذا النص المكثف المُتشعِب الذي لا يراعي نظام الفكرة و لا أولوية التفكير في رسم المشاهد و صناعة الأحلام فتتوحد الرؤيا بالرؤية ،و لذلك فقد لا تهتدي هذه القراءة إلى منتهاها ما لم تعتمد على “رؤية مضاعفة ،تستهدف حالة الأشياء و تستهدف نفسها كأسئلة و في نفس الوقت أيضا تستهدف معنى الوجود ووجود المعنى في داخل الوجود ” قد يفسّر ذلك “انعكاس الذات على نفسها لتتأمل معاني الظواهر كما تتبدى لخبرة الذات و هذا الاتجاه في رؤية الأشياء و الظواهر يتمثل بوضوح في نصوص الغيطاني ” معنى ذلك أن قارئ نصوص جمال الغيطاني عليه أن يحاور ذاتا أخرى ،و قد نستقر عليها بوصفها الشخصية الساردة التي تبدو وكأنها تكتفي بالحكي ؛غير أن حقيقتها هي فاعلة و صانعة للحدث فتجدها تتفاعل معه حال تفاعل الذات بموضوعها في نطاق اندماجي واحد يخدم مسار القراءة الفينومينولوجية و يحقق مرامي الصوفية بكل تطلعاتها … يتبع

مساهمة خاصة بـ: حفيظ ملواني – جامعة علي لونيسي /البليدة 2

 

 

من نفس القسم الثقافي