الثقافي

مدارك القراءة الصوفية وتجلياتها في الشخصية الروائية “خلسات الكرى” لجمال الغيطاني أنموذجا (1)

سأحاول تقديم قراءة اختبارية لمُنجز روائي ذاع صيته في مناحي الإبداع العربي المعاصر و أخص بالذكر “خِلسات الكرى” للكاتب المصري جمال الغيطاني (رحمه الله)، قصد النظر في مدى استجابته لعوالم الروحانية الصوفية المرتحِلة بين أفئدة شخصياته، في نطاق مسلك ،قد تتداخل فيه الأجناس و تتشابك فيما بينه الطروحات و التأملات، فيتجاوز بذلك الخطاب الصوفي حدود الشعر لتمتد شاعريتُه إلى قالب الرواية بالقدر الذي يجعل المُؤوِّل أمام أدوات قراءة جديدة ؛يستلمها من محض البنية التعبيرية ، إذ ترتسم لديه آليات قرائية منفتحة على كل الاحتمالات ،لاسيما أنها تشتغل على مضمار صورة الشخصية التي تنّم عن هذه الروح الصوفية المتراوحة بين الأمل و الحنين تارة و العبودية و الحرية تارة أخرى ،و هو ما ينكشف بصورة واضحة في مستوى المظهر و السلوك ،بل حتى بين ثنايا الخطاب الذي تحكيه،إنها بحق ورطة قد يقعُ فيها أي قارئ مُقبِل على النص من هذا الصنف ،بسبب هذه التداعيات الصوفية ،بالنظر إلى الإسقاطات النفسية و النفيسة التي قد يفرضها نسق إبداعية الرواية فتتحقق على ضوئها ملامح هذه الثقافة بطقوسها و أبعادها و مجرى فلسفتها الباطنة المُطّعمَة بالعقيدة الإيمانية التي تقوم عليها و من أجلها حتى يتحقق فعل ترجمتها على مستوى الممارسة التأويلية و لهذه الغاية ستنفتح هذه القراءة على الاعتبارات التالية :

لا ينبغي أن ننظر إلى الشخصية الروائية من موقع ضيق فاتر ، و إنما من الضرورة بما كان ؛أن نبعث فيها حركيتها و هويتها و فلسفتها انطلاقا ؛مما تقوله و ما تفعله ،و لعل القراءة التي نحن بصدد تقديمها ؛تريد أن تشرح الشخصية الصوفية على امتداد النص المستهدف؛ بمعزل عن الكاتب و عن النصوص الأخرى العالقة بها ؛و أقصد هنا منجزات جمال الغيطاني السابقة و اللاحقة؛ و هذا لا يعني على الإطلاق نفي الصلة و لا التنكر للبعد الروحاني الذي يحقق وجود الكاتب جمال الغيطاني من خلال النص ؛و لكن الغاية تتمثل في محاولة الإحاطة بالنص حتى لا يغيب كيانه؛ فنجد أنفسنا أمام نصوص أخرى زاحفة عليه كما قد نلمح سمات الشخصية الصوفية من خلال جملة من المعطيات حتى و إن سلمنا بأن المنطلق القاعدي يرتكز على مدلول الزهد الكلي في الدنيا و الإخلاص في العبودية ،إذ يتساوى لدى المتصوف الظاهر و الباطن، فتجده مطيعا لله و رسوله ،قاهرا لنفسه ،متصفا بالورع ،يملك زادا إيمانيا عميقا ،كل هذا يصب و ينم عن حب الله تعالى على ألا نحكم على المتصوّف بأن ينتمي إلى اتجاه يشبه المنظور الأيديولوجي الحزبي الضيق أو إلى مذهب محدد و مؤطّر ، ما يؤيد هذا المنحى ما ورد على لسان أحمد أمين في الجزء الرابع من كتابه “ظهر الإسلام” ؛ بقوله التصوف نزعة من النزعات لا فرقة مستقلة كالمعتزلة و الشيعة و أهل السنة و لذلك يصح أن يكون الرجل معتزليا وصوفيا، أو شيعيٍّا وصوفيٍّا، أو سنيٍّا وصوفيٍّا، بل قد يكون نصرانيٍّا أو يهوديٍّا أو بوذيٍّا وهو متصوّف » ما يفيد أيضا كون المتصوفة جميعا يملكون فيما بينهم نقاطا مشتركة توحّد وجودهم و تحقّق صورتهم “نجد بين الصوفية كلهم تشابها في المقاصد و الوسائل و السير تمكن الباحث من أن يقول :هذا صوفي و هذا غير صوفي ،و قد تيسر للناس في العصور المختلفة أن يعرفوا الصوفية و يسموهم بهذا الاسم ” و الصوفي لا يتصرف من محض العقل فهو أقرب لأن يكون من “أهل الوجدان و الكشف ” فالمبدأ هو معرفة الله انطلاقا من حقيقة الإيمان به ،الصادرة من القلب دون تقصير و لا إجحاف” قال أبوبكر الواسطي :من قال :”أنا مؤمن بالله حقا “قيل له :الحقيقة تشير إلى إشراف و إطلاع ،و إحاطة ،فمن فقده بطل دعواه فيها .يريد بذلك ما قاله أهل السنة إن المؤمن الحقيقي من كان محكوما له بالجنة فمن لم يعلم ذلك من سر حكمة الله تعالى فدعواه بأنه مؤمن حقا غير صحيحة ” تملك الشخصية الصوفية قناعتها من ضعفها إنها فقيرة إلى الله ؛ بالمقابل تستمد قوتها من روحانيتها، التي تسمو فوق كل مادة أو حاجز، إنها حالة نفسية تؤدي بصاحبها إلى تخطي المحسوسات إلى حدود الغيبيات ؛ما قد يجعل لهذه الشخصية مزايا تفوق قدرات الإنسان العادي “إن المرء يسعى بكل الوسائل لكي لا يلفت الأنظار إليه ، أي أنه يحاول أن يبدو كأنه مغموط القدر بدلا من أن يبدو معروفا و معترفا به .فإذا كان المرء يعتقد أنه أفضل من الآخرين فإنه سيرغب في أن يوحي للآخرين كما لو كان هو نفسه يعتقد بأنهم أفضل منه .أما إذا آمن بأن الآخرين دون منزلة من حيث مستواه الفكري و إخلاصه التعبدي فإنه سيبالغ فيما أمر به من عدم اللعنة و التسامح و العفو مبالغة مفرطة ،تدعو للقلق ،بحيث لا يعود يرى أخطاء أخيه و عيوبه بتاتا ” هذا التخطي الذي يتوقف على مقام الصالحين” اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات: أولاها: تغلق باب النعمة وتفتح باب الشدة، والثانية: تغلق باب العز وتفتح باب الذل، والثالثة:تغلق باب الراحة وتفتح باب الجهد، والرابعة: تغلق باب النوم وتفتح باب السهر، والخامسة: تغلق باب الغنى وتفتح باب الفقر، والسادسة: تغلق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت.” ما هو إلا حركة استبطانية ذهنية تعكس حالة السفر ليس من نقطة فيزيائية لأخرى فحسب بل هو تحوّل من عالم مرئي إلى لا مرئي، من المحدود إلى اللامحدود، يقول أبو حامد الغزالي في هذا الصدد و منادي الإيمان ينادي :الرحيل الرحيل فلم يبق من العمر إلا قليل و بين يدي السفر الطويل و ما أنت فيه من العلم و العمل رياء و تخييل ،فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد و إن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية و يتجزم العزم على الهرب و الفرار » ... يتبع

مساهمة خاصة بـ: حفيظ ملواني – جامعة علي لونيسي /البليدة 2

 

من نفس القسم الثقافي