دولي

في أولوية المسطرة الأخلاقية الواحدة

سيرى البعض في الأسطر القادمة تناقضا من كثرة ما ران على وعينا الجمعي من تزييف وتغييب للحقائق وادعاءات بطولة متهافتة وتوظيف لمعايير مزدوجة وإسقاط لقيمة العقل. غير أنها في الجوهر محاولة، لا أزعم أبدا اكتمالها، لتطبيق مسطرة أخلاقية وإنسانية ومجتمعية واحدة على قضايا تتباين وتضاد سياقاتها وأطرافها.

فإذا كنا ندين الإجرام الإسرائيلي إزاء الشعب الفلسطيني احتلالا وقتلا وتهجيرا واستيطانا وحصارا وانتهاكا للحق الجماعي في تقرير المصير ولكرامة وحقوق وحريات الناس، وإذا كنا نطالب شعوب العالم بالامتناع عن إنكار جرائم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وجرائم المستوطنين والتوقف عن المتابعة غير المبالية للاعتداءات وممارسات العنف المتكررة التي ترتكبها آلة القتل المسماة «جيش الدفاع الوطني» ولقوائم الضحايا من الأطفال والنساء والعجائز والرجال المستمرة في الاستطالة؛ فإننا لا نملك حق تنحية قيم العدل والحق والحرية والتسامح جانبا لكي نتورط في إنكار المحرقة التاريخية، جريمة الإبادة البشعة التي نفذها النازي ضد ملايين اليهود.

ولا يعني الاعتراف بالمحرقة قبول وضعية «الضحية الأبدية» التي توظفها إسرائيل بكفاءة رمزية وخطابية بالغة لإلهاء الرأي العام العالمي عن إجرامها بحق الشعب الفلسطيني وللتشكيك المتهافت في عدالة القضية الفلسطينية، وهي قضية لا تقبل التشكيك بكونها قضية شعب اغتصبت أرضه وهجر وفرضت عليه مصائر القتل على الهوية والتهجير والنزوح واللجوء وما لبث بعد عقود طويلة يعاني من قسوتها ومن جرائم الاحتلال والاستيطان والحصار.

 

إذا كنا ندين صنوف العقاب الجماعي التي أنزلتها وتنزلها إسرائيل بالشعب الفلسطيني، فإننا لا نملك حق تغييب جريمة العقاب الجماعي التي أنزلتها في أواسط القرن العشرين بعض الحكومات العربية بمواطنيها من اليهود

إذا كنا ندين صنوف العقاب الجماعي التي أنزلتها وتنزلها إسرائيل بالشعب الفلسطيني، ونخاطب شعوب العالم لتتضامن معنا كأصحاب حقوق مهدرة ولتحتفظ في ذاكرتها الجمعية بمكان خاص للتاريخ العدواني لإسرائيل وللنضال الفلسطيني والمقاومة التي لم تخفت جذوتها أبدا، فإننا لا نملك حق تغييب جريمة العقاب الجماعي التي أنزلتها في أواسط القرن العشرين بعض الحكومات العربية بمواطنيها من اليهود المصريين والسوريين واللبنانيين والعراقيين والتي تمثلت في تهجيرهم وحرمانهم من الحياة في الأوطان التي لم يعرفوا غيرها وتنميط صورتهم الذهنية كأعداء وخونة ومتآمرين تنزع عنهم كل قيمة أخلاقية وإنسانية وتلغى هويتهم الوطنية ويعصف بتواريخ التسامح والتعايش الطويلة بينهم وبين المجموعات السكانية الأخرى.

ولا يتناقض الاعتراف بالظلم الذي ألحقته في خمسينيات وستينيات القرن العشرين بعض الحكومات العربية باليهود العرب مع كشف وتوثيق وإدانة الظلم المستمر الذي تلحقه إسرائيل بالشعب الفلسطيني، واعتداءاتها الممنهجة على الجوار العربي لفلسطين. ولا تتناقض استعادة تواريخ التسامح والتعايش التي اتسمت بها بعض المجتمعات العربية وصنعت هويتها الحضارية مع رفض التسامح مع جرائم إسرائيل والدعوة إلى مقاطعتها حتى ينتزع الحق الفلسطيني ويحاسب قتلة الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين من السياسيين والعسكريين والمستوطنين وينتهي الاستثناء الإسرائيلي المتمثل في العصف المتكرر والممنهج بمبادئ وقواعد القانون الدولي.

إذا كنا ندين الاعتداءات المتكررة للمستوطنين المجرمين، وهما جميعا كذلك وبغض النظر عن مدى تورطهم في ممارسة العنف اليومي ضد الفلسطينيين لأن فعل الاستيطان يمثل في ذاته جريمة وعنفا، فإننا لا نملك ترف الصمت على انجرار بعض الفلسطينيين إلى العنف المضاد الذي يفسد سلمية الحراك المقاوم الراهن في كل أراضي فلسطين التاريخية ويشوه المشهد العظيم لشعب يناضل من أجل حقه في تقرير المصير والكرامة والحرية ويواجه في سبيل قضيته العادلة آلات قتل حكومية وغير حكومية لا تتورع عن القتل ولا تردعها رهبة الموت عن مواصلة جرائمها.

خطأ فادح أن تنجر إلى العنف مقاومة الشعب الفلسطيني التي أدعمها وأسعى للانتصار إليها بأدوات الكاتب المحدودة، وخطأ فادح أن نساند كعرب أعمال العنف المضاد التي يرتكبها بعض الفلسطينيين في مواجهة آلات القتل الإسرائيلية. فعظمة المقاومة الفلسطينية هي في سلميتها التي جسدتها خالصة الانتفاضة الأولى في ثمانينيات القرن العشرين، وترتبط فاعليتها أيضا بسلميتها التي دوما ما أربك التمسك بها حسابات القتلة الإسرائيليين وجدد دماء التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني.

في جميع هذه القضايا والسياقات وإزاء كافة هذه الأطراف، نحتاج لمسطرة أخلاقية وإنسانية ومجتمعية واحدة، مسطرة العدل والحق والحرية والتسامح.

 

من نفس القسم دولي