الثقافي

الحياة الثانية لموسيقى الراي في الجزائر

لم يعد مستمع واحد يفكر في شراء الألبوم، صار من النادر أن نصادف محلاً لبيع الأشرطة، كما كان سابقا

طرأ في السنوات الأخيرة لغط يجزم أن موسيقى الراي قد تراجعت، وتدنو من نهايتها، إنها تصدعت ولن تكمل الطريق الذي سارت عليه منذ عقود، ويبرر أصحاب ذلك الرأي كلامهم بتدني أداء المغنين الجدد، يعيبون عليهم التميع والتسرع واتكالهم على الآلة بدل الصوت أو الكلمات، انخراطهم في الترويج للمهلوسات، وامحاء صورتهم من وسائل الإعلام الرسمية والخاصة منها، ويحفل متدينون بهذا الكلام، يجدون فيه عزاءً وتسلية لهم، فموسيقى الراي كانت ولا تزال خصماً للتشدد الديني، ونهايتها ـ كما يظنون ـ تعني انتصاراً نفسيا لهم، لكن هذا اللغط يطمس حقيقة، يُحاولون منع الآخرين من النظر إليها.

 

إن الراي لم يبلغ ذروة مثلما بلغها، في الفترة الأخيرة، وأرقام الاستماع إليه تتجاوز أرقام الاستماع إلى أسماء كلاسيكية، مثل ريميتي، خالد، فضيلة وغيرهم، لقد تجاوز هذا الجيل الجديد جيل السابقين، وإن كان للأولين فضل في تحديث الراي، شكلاً وكلمات، فإن شباب اليوم أفلحوا في تحديث أساليب تلقي الراي، لم يعد يهمهم استصدار ألبوم أو انتظار دعوة لحضور مهرجان، لا يعنيهم أن تظهر صورهم في جريدة أو يُبايعهم واحد من شيوخ هذا الفن، بل يصنعون موسيقاهم بأنفسهم، في استديوهات ضيقة، معتمدين على منصات رقمية في الترويج لأعمالهم، ومهما يُقال عن مستوياتهم، وتباين التقييم بينهم، فإن الشيء الذي لن نختلف فيه أن الراي هو الموسيقى الأولى المطلوبة على الإنترنت في الجزائر، وأن ملحناً مثل هشام سماتي، الذي لا يظهر قط على التلفزيون، تتجاوز شهرته شهرة خطباء ودعاة، يتناوبون على الظهور كل يوم في الشاشات، وأن أغنية واحدة من أغاني الراي الجديدة، تقذف في اليوتيوب مثلما تقذف قنينة في البحر، فيستمع إليها الملايين في زمن وجيز، إن القول بأن الراي قد تراجع كان رأياً متسرعاً، فرضته أغراض سياسية، وكي نفهم «صحوة» الراي الجديدة، وارتفاع شعبيته مرة أخرى، علينا أن نبحث في الأسباب، ونستوعب ماذا يُريد الجزائري اليوم أن يسمع!

بدأت، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، تتشكل صناعة موسيقى الراي، مع شركات إنتاج، ظهرت خصوصاً في مدينتي وهران والجزائر العاصمة، مع استديوهات تسجيل أخرى في شرق البلاد، برزت ماركات لا تزال الألسنة تحفظها (مثل ديسكو مغرب)، وهيمن أصحاب تلك الشركات على سوق الراي، جعلوا منه بضاعة مربحة مادياً، كانوا ينبشون في أحياء شعبية، وفي ملاهٍ وفي مخيمات صيفية بحثاً عن أصوات جديدة، وفي خضم تلك المرحلة سطعت أسماء سوف تصير رموزاً، لم يكن يهم أصحاب شركات الإنتاج البحث عن أسماء تلقى إجماعاً أو أصواتا ترضى عنها السلطة (بحكم أنها المتحكم في التلفزيون والراديو)، ولم يفكروا في الصورة وأغفلوا البحث عن مغنين بوجوه حسنة تميل إليها الأعين، بل كانوا يدفعون بمغنين يستجيبون لمخيلة الجمهور، المشكل في غالبيته من شباب خريج أوساط فقيرة.

لم يعد مستمع واحد يفكر في شراء الألبوم، صار من النادر أن نصادف محلاً لبيع الأشرطة، كما كنا نراها في الماضي، وتحول الجميع إلى المنصات الرقمية، إلى مواقع وتطبيقات، يبث فيها المغنون الجدد أعمالهم

استمر الحال كذلك إلى أوائل التسعينيات، لم يكن مغني الراي حينذاك يستطيع أن يثبت اسمه بدون المرور بواحدة من شركات الإنتاج المعروفة حينها (تجاوز عددها 50 شركة)، كان اسم الشركة يسبق اسم المغني، ودخلت البلاد سنوات الموت والدم، وصار الراي شكلاً من أشكال المقاومة، لكن شركات التسجيل تراجعت، امحت العلاقة العمودية من شركة الإنتاج وصولاً إلى المستمع، مروراً بوسطاء، وبات على المغنين أن يبحثوا بأنفسهم على استديو تسجيل، أن يبحثوا بأنفسهم على المتلقي، يؤجرون مرات من جيبهم، كي يصدروا ألبوما أو اثنين، قبل أن يروا صورتهم في واحدة من الصحف الفنية، أو يتجرأ صحافي على بث أغنية لهم، لاسيما في الفترات الليلية ـ إلى وقت قريب كان الراي لا يبث في الفترات النهارية في الإذاعة ـ وقبل عشر سنوات تقريباً بدأت ظاهرة «الألبوم» في الاختفاء، مثلما اختفت الاسطوانات بأشكالها المختلفة، الكاسيت والقرص المدمج.

لم يعد مغني الراي مهتماً بإصدار مادة على الطريقة التقليدية، وهذا واحد من الأسباب الذي يدفع البعض للقول ـ خطأ ـ إن الراي قد تراجع، بدون إدراك أن مغني الراي قد هجر الوسائط القديمة، وانتقل للإنترنت، صارت تهمه الصورة لا الصوت، وشاعت ظاهرة الفيديو كليب ـ التي كانت محدودة سلفاً ـ ولم يعد مستغرباً أن يصدر مغني راي أكثر من فيديو كليب في العام الواحد، وأرقام مشاهدتها بالملايين، فمثلما طور السابقون الراي في الكلمات واللحن، يطوره الجدد في دمجه مع التكنولوجيا، ولن نُجانب الصواب إذا قلنا إن الراي أكثر موسيقى تعاملت بليونة مع زمانها أكثر من الأنماط الأخرى في الجزائر.

انتفاضة يشهدها الراي، منذ بداية الألفية الجديدة، وظهور نجوم جدد، من شباب لا سوابق لهم في الميديا، ولا في المهرجانات، لكن لا أحد يقر بها.

أزاحت التكنولوجيا الجديدة شركات الإنتاج من الطريق ودفعت بالراي إلى أقاص لم يكن يفكر في الوصول إليها.

لم يعد مستمع واحد يفكر في شراء الألبوم، صار من النادر أن نصادف محلاً لبيع الأشرطة، كما كنا نراها في الماضي، وتحول الجميع إلى المنصات الرقمية، إلى مواقع وتطبيقات، يبث فيها المغنون الجدد أعمالهم، يتسابق المتلقون في تحميلها، وفي مقاسمتها على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي وعلى هواتفهم الذكية، يستمعون إلى كل ما هو جديد، خاصة أغاني تحاكي هشاشة الحال الذي يعيشون فيه، فالجزائري ليس يميل في الغالب إلى انتقائية في التعامل مع الموسيقى، قد لا يفرق بين الآلات، لكن ما يجذبه إلى الراي الجديد هو الكلمات، أن يتكلم المغني عنه، ليس يهمه الأداء ولا الألحان، بل يهمه أن يسمع من يشاركه الشقاء الذي يحيا فيه، تهمه الفرجة في الفيديو كليب، يهمه أن يسمع كلاماً يُمنع الخوض فيه في الأمكنة العامة، هذا هو ما يبحث عنه شاب بين المراهقة والأربعين في الجزائر، وذلك ما استوعبه مغنو الراي الجديد، واستجابوا إليه، استثمروا في هذا الكبت المعشش، والذي يتسع، ونقلوا جمهورهم من متابعة الألبومات ومن حضور الحفلات والمهرجانات، إلى الراي الرقمي، الراي الجديد، وكسبوا شعبية، تنمو كل يوم أكثر، في حين لا يزال المتشائمون يرددون، على الطرف الآخر أن الراي قد اقترب من نهايته.

 

من نفس القسم الثقافي