الثقافي

فيلم «الإيرلندي»… عودة حميدة لسكورسيزي إلى المافيا

تعد ثقافة سينمائية تسمح بتملّك تلك الوصفة الجامعة بين النقدي والجماهيري

هنالك دائماً الكثير لقوله عن مارتن سكورسيزي، فهو نموذج خاص من المخرجين، هو أولاً صانع أفلام ممتازة إخراجياً وسردياً، غالباً ما ينال تقديراً نقدياً عالياً. هو ثانياً صاحب أفلام بجماهيرية عالية، ونعرف أن لسكورسيزي ثقافة سينمائية تسمح له بتملّك تلك الوصفة الجامعة بين النقدي والجماهيري، أذكّر هنا بالوثائقيين (كمثالين سريعين) الذين أخرجهما: «رحلة شخصية مع مارتن سكورسيزي عبر السينما الأمريكية»، 1995، و«رحلتي إلى إيطاليا»، 1999). واستطاع، إضافة إلى ذلك، أن يكون أحد أسياد نوع من أنواع السينما، وهو المافيا.

لسكورسيزي، قبل «الإيرلندي» سلسلة من أفلام المافيا منها «غودفيلاز»، 1990، و«كازينو»، 1995، وغيرهما مما سبق «الإيرلندي»، فكان الأخير استكمالاً، أو ختاماً، مناسباً لها. لا أقول بأن سكورسيزي حصر نفسه في هذا النوع من الأفلام بل نوّع فيها، كآخرين من رفاق جيله من المخرجين ممن صنعوا مركزاً سينمائياً في نيويورك بدل هوليوود كفرانسيس فورد كوبولا وستانلي كوبريك وبراين دو بالما وتيرانس مالك وآخرين. ليس في ذلك التنويع أفلام ممتازة دائماً، فالتنويع يشمل كذلك مستويات جودتها، لكن الجيّد في أفلام سكورسيزي كان عموماً -أكثر من غيره- في أفلام المافيا، أو الجرائم خارج سياقات العصابات.

فيلمه «الإيرلندي»، المعروض في نتفليكس حالياً والذي عُرض في مهرجان نيويورك السينمائي، وفي السينماتيك الفرنسية في أكتوبر بحضور المخرج، هو من هذه الأفلام الجيّدة حيث المافيات، الأمريكية الإيطالية تحديداً.

هنالك فعلاً الكثير لقوله عن مارتن سكورسيزي، وعن هذا الفيلم، من جوانب عدّة، إنّما ما يهمني هنا، وفي أمكنة أخرى، أكثر، هو أسلوب السرد في الفيلم، أسلوب أتى في الفيلم، هنا، في ثلاث طبقات «فلاشباكيّة» رجوعاً بزمن متقدّم، فالفيلم هو عبارة عن رواية فرانك (روبرت دي نيرو) لما حصل، وهو عجوز على كرسي متحرك في مأوى للعجزة، يبدأ بالحديث عن رحلة يقوم بها مع رئسيه، وهو زعيم مافيا هناك اسمه راسل بوفالينو، إلى زواج صديق لهما، أو عضو في المافيا العائلية لراسل، فندخل هنا في طبقة استعادية أولى، إلى زمن سابق، يتقدم الزمن والأحداث ببطء، في رحلتهم الممتدة لأيام على الطريق، متخللة إياها أحاديثُ فرانك وراسل وذكرياتهما، يرويها فرانك دائماً، فندخل في طبقة أخرى، ثانية، في استعادة الزمن السابق، من خلال رواية الذكريات، وفي هذه الطبقة تكون الأحداث الأساسية للفيلم، أو حيث تبدأ علاقة فرانك براسل ودخوله إلى عالم المافيا، بعدما كان سائق شاحنة. تتطوّر هذه الطبقة من الزمن لسنين يصل بها فرانك وباقي الشخصيات إلى اليوم الذي سيبدأون مشوارهم الطويل في السيارة، الممتد لأيام، مكملاً، الزّمنُ، سيرَه إلى أن يصل إلى فرانك اليوم، الراوي، الذي بدأ الفيلم به، العجوز الوحيد وقد قُتل أو مات كل رفاقه وأعدائه، من مجايليه، على يده غالباً، ليبقى هو وحيداً حزيناً وعاجزاً.

كل ذلك تم سرده بشكل محكم، لصاحب خبر سينمائية طويلة، فنياً ونقدياً، بحضور ثلاثة من كبار الممثلين، في أفلام المافيا تحديداً، كآل باتشينو وروبرت دي نيرو وجو بيتشي (الأخيران حاضران معاً في العديد من أفلام سكورسيزي كما في «كازينو»، و«غودفيلاز»، و«رايجينغ بول»، 1980)، وكان السرد الفنّي لحكاية واقعية، منقولة عن كتاب «سمعتُ أنّك تدهن بيوتاً» وهي حكاية صعود وأفول فرانك شيران (الحقيقي)، المعروف بالإيرلندي، كقاتل مأجور صار قائداً نقابياً، وهي حكاية المافيات الإيطالية في أمريكا وصراعاتها السياسية، وهي أساساً حكاية اغتيال الرئيس النقابي جيمي هوفا كإحدى مراحل الصراعات بين المافيات هناك (وكذلك السياسيين). وقد أُنجز أكثر من فيلم وثائقي وروائي حول اغتيال هوفا.

قد يكون الاحتفاء النقدي والصحافي بالفيلم راجعٌ إلى عودة سكورسيزي الذي يحبّه النقدُ السينمائي، هو ليس ترحيباً مفتعَلاً وهو ليس ترحيباً شهدناه مع خروج أفلامه الأخيرة إلى الصالات كـ«صمت»، 2016، و«ذئب وول ستريت»، 2013، و«هيوغو» 2011، و«شاتر آيلاند»، 2010، وغيرها رجوعاً إلى «كازينو»، بعضها متواضع وبعضها ممتاز، لكنها، جميعها، لا تجول في ملعَب سكورسيزي، أي المافيا والجريمة، الملعب الذي تميّز فيه سكورسيزي عن آخرين، وتميّزت أفلامه فيها عن غيرها بمواضيعها المتنوعة. فبدا الفيلم، بموضوعه وشخصياته وحتى ممثليه، استكمالاً للأفلام التي برع فيها سكورسيزي، آتياً إلى المُشاهد بفريقه من الممثلين في أفلامه تلك، دي نيرو وبيتشي، مضيفاً إليهما باتشينو، في لقاء أوّل بين باتشينو ودي نيرو بعد أهم فيلم مافيا على الإطلاق، «العرّاب» بأجزائه الثلاثة، 1972، لصديق سكورسيزي، فرانسيس فورد كوبولا (التقيا في فيلم رديء بعد «العراب» هو «هيت» لمايكل مان، عام 1995).

اقتصار الحديث عن الفيلم (The Irishman) على السّرد فيه، لا يوفيه حقّه، الجانب التاريخي الواقعي للحكاية يحتاج بعض الحديث، تجاور الممثلين الكبار مع بعضهم يحتاج حديثاً أطول، جوانب الإخراج تحتاج كذلك مساحة أكبر. يبقى، على كل حال، الأهم من ذلك مشاهدة الفيلم بمتعة تمتد لثلاث ساعات ونصف.

 

من نفس القسم الثقافي