الثقافي
حياة على الحدود كما عاشتها أولغا توركاتشوك
لقد كان للثقافة اليهودية يد في تنشئها الأدبية لكن ما تعيبه على بولونيا هو هزاتها السياسية، ضيق أفقها أحياناً
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 15 ديسمبر 2019
يُساور أولغا توركاتشوك خوف أن تتخلى أوروبا، من جديد، عن بولونيا وتعزلها إلى الشرق، فتسقط في حضن «العالم الآخر» كما عبّرت عن الجار الروسي، مثلما حصل في عقود مضت، وتفقد كيلومترات من حدودها، التي لم تتوقف عن التقلص، وليست وحدها من يخال أن التاريخ قد يغدر بلدها، فهي تنوب عن مواطنين لها في كلامها، لا يزالون يتوجسون من يد موسكو الطويلة ومطامعها، ويخشون أن يتكرر التاريخ في وجهه الأكثر درامية، فينعزل بلدها، ويغادر المنطقة الوسطى التي كرّسها في العقود الثلاثة الماضية، فينزاح شرقاً، إنها لا تُدافع عن بولونيا، وتصر على حقها في محفل الدول الغربية، بقدر ما تُدين بقايا السوفييتية، التي لم تقطع حبل الحنين إلى سنوات الحرب الباردة، فالكاتبة تستعين بالأدب في الدفع ببلدها غرباً، وقد تسلمت الثلاثاء المنصرم نوبل للأدب، ما سهل لها أن تُجاهر اليوم بصوت كان خافتاً بالكاد مسموعاً، كي لا تظل بولونيا مُعلقة في الشك، كبش فداء في كل تقسيمات الحدود، التي عرفها القرن الماضي، وأن تحفظ مكانتها وميلها للغرب، ولا تعود إلى سنوات الشيوعية، التي قمعت كل الانتفاضات الداخلية، وكبحت نزعة البلد وحقه في الاشتباك مع التاريخ المعاصر.
أوربا الغربية لا وقت لها ولا صبر كي تفهمنا»، قالت الكاتبة، في آخر حوار معها على محطة إذاعية، وقد توالت حواراتها وتصريحاتها، منذ إعلانها فائزة بنوبل للأدب 2018 (التي حجبت العام الماضي) قبل شهرين، لا تخفي تمادي الهوة بين بلدها وجيرانه الغربيين، وكيف أن الأدب لعب دوراً، ولو رمزياً، في ترميم ما يمكن أن يرمم، لاسيما بعد أن شرعت كتبها في بسط طريق لها للترجمة إلى لغات غربية، في السنوات الخمس عشرة الماضية، مع ما عرفته تلك الترجمات من تباشير نجاح، بدءاً مع روايتها «العابرون»، التي صدرت عام 2007.
في كل مرة كانت تُسأل أولغا توركاتشوك (1962): «ما هو الوطن؟»، تُجيب بشيء من الشعرية والاستفزاز: «الوطن هو الروائح»، تلك الروائح التي تعودت عليها ولا تجدها في مكان آخر، تلك الإجابة تبتغي منها رداً على قوميين ومتعصبين، يحصرون الوطن في الجغرافيا أو في العرق، وهما عاملان يصعب إسقاطهما على بولونيا، فحدود هذا البلد غير ثابتة، تتقلص وتتمدد حسب الصراعات، كما لا يمكن اختصاره في عرق واحد، بحكم أنه بلد متعدد، وموقعه ألزمه بقبول مهاجرين وحقنهم في صلب سكانه الأصليين.
وأكثر فئة تعاني من هذا التشظي هناك هم سكان الحدود، العالقون على الخطوط التي ترسم الخرائط، وأولغا توركاتشوك واحدة منهم، فقد وُلدت وكبرت في مدينة سوليخوف، التي لا تبعد عن ألمانيا إلا أقل من ساعة سيراً بالسيارة، ما أسبغ على مدينة مولدها تعدداً ثقافياً، فقد تعودت الكاتبة في صغرها على سماع لغتين: البولونية والألمانية، كما أن مرضعتها ـ حسب ما ورد في الحوار نفسه ـ كانت ألمانية، بقدر ما يلقي هذا التعدد من إيجابيات فهو يولد مخاوف في نفسها ونفوس من تعرفهم، حيث أن اندلاع أي صراع جديد، سوف يترتب عنه فقدان المدينة، إما أرضاً لها أو توصد حدودها مع الجار الألماني، وذلك شعور يستمر منذ نصف قرن أو يزيد، حيث تضيف قائلة، إن ألماناً كثرا فضلوا البقاء في سوليخوف، بعد الحرب العالمية الثانية، خشية منهم إن غادروها أن لا يعودوا إليها. هذا الوضع المشتعل لا يخص بولونيا وحدها، بل كل ما يُطلق عليه «وسط أوروبا»، وهي منطقة يتغير تعريفها الجغرافي، على خلاف الأوروبتــين الشرقية والغربية، وفي نظر أولغا توركاتشوك فإن وسط أوروبا اليوم يبدأ من شــــرق ألمانيا والنمسا، ويمتد إلى حوض البلقان جنوباً، وليتوانـــيا شــــمالاً، يشمل دولا مرّ عليها ما أطلق عليه الحزام السوفييتي سلفاً.
«على الرغم من أن بولونيا تشغل الوسط فإن أوروبيين غربيين يرونها حدوداً» تواصل أولغا توركاتشوك مُرافعتها وإدانتها، لما وصفته بتخلي الجيران عن بلدها، وتُضيف: «لكن هذا الأمر لا يُضايقني فمن الحدود وعلى الهامش تتوالد الأفكار»، حياتها في المفترق، بين البينين لعبت دوراً في ما وصلت إليه اليوم. تلك السخرية التي نُصادفها في كتاباتها وعند كتاب من المنطقة ذاتها لا نجدها في مكان آخر، إن الموقع الجغرافي يحدد طبيعة الأدب الذي يُكتب، وعلى الرغم من أن ميلان كونديرا قد حاول أن يُقارب روايات وسط أوروبا، وميزها عن نظيرتها في الغرب، فإن عمله يحتاج إلى مواصلة، إلى دراسات مكملة، ولم تأت أولغا توركاتشوك بجديد إن قالت إنها تكتب رواية أوروبية، لكنها ليست نفسها التي تكتب في فرنسا أو بريطانيا، «أود أن أعيش يوماً بشعور امرأة بريطانية، لم يُحتل بلدها»، تصرح، في محاولتها لفهم نموذج يُخالف حالها وحال مواطنيه، الذين خرجوا من رحم أزمات وحروب متوالية مرّت عليهم، كما لو أنهم يتوارثون الخوف والهلع، ولا يأمنون الحاضر الذي يتشاركون فيه. ففي الحدود التي عاشت فيها أولغا توركاتشوك ولا تزال، كذلك تتلاقى العبقرية بالجنون، إن الخطوط التي تفصل بين الخرائط، هي خطوط تصل بين المتناقضات، وكل كاتب يداوم على عيشة مماثلة، لا يدري إلى أي الفريقين ينتسب، يجد نفسه في الخلط بين الحامض والحلو، مما يكسبه خصوصية تتجاوز ما يحظى به من يعيش في قلب جغرافيا مستقرة.
لقد كان للثقافة اليهودية أيضاً يد في تنشئة أولغا توركاتشوك الأدبية، لكن ما تعيبه على بولونيا هو هزاتها السياسية، ضيق أفقها أحياناً، ولا تتحرج من القول: «نحتاج وقتاً أطول كي نكرس الديمقراطية»، رغم ما قطعوه من أشواط، فإنها تقدر أن الطريق لا تزال شاقة؛ ماذا لو اطلعت عن حال الديمقراطية في البلاد العربية؟ إن ما ورد على لسان أولغا توركاتشوك في حوارها الأخير، قبيل أن تطير إلى استوكهولم وتستلم جائزة نوبل للأدب، يعزز الصراع بين الأوربتين لا يزال قائماً، وأن الحدود لم تصل نقطتها النهائية، والتغيرات واردة، كما أشارت ـ ضمنياً بدون أن تُصارح بذلك ـ من إلى النظرة الدونية التي ينتهجها كتاب غرب أوربيين تجاه نظراء لهم في شرق القارة العجوز.