الثقافي

"إعادة الأعمال الفنَّيةَ": آثارنا المنهوبة في نقاشهم الثقافي

إنَّ تفكيكَ الإرث الاستعماريّ مهمةٌ ثقافيّةٌ بالدرجة الأولى. وقد شملت، في مراحل سابقة، التاريخَ العسكري والسياسي المشتركَ بين المستعمِر والمستعمَر، وتَعدَّته الآن إلى المجال الثقافي-الفني. إذ كان من تَبِعات الاحتلال الكبرى، وليسَ من تفاصيله الثانويّة، انتقالُ نِتاج الأعمال الفنية والصنائع اليدويَّة للشعوب والقبائل الأفريقية إلى الغرب ومَتاحِفه وقُصور ذوي اليسار الخاصة، ضمن عمليات اختلاسٍ ونَهبٍ أو، في أحسن الأحوال، معاملات بَيعٍ بِالغَرر.

ولِحسن الحظّ، تنامى اليومَ الوعيُ بضرورة طرح مسألة انتقال هذه الآثار وطُرقها اللاشرعية وأثمانها وحقّ ملكيتها والتمتع بها، فضلاً عن قضيّة "إرجاعها" إلى أصحابهم الحقيقيين. وبالنظر إلى ما لهذا السؤال من الأهمية فقد تَبارى على الخوض فيها الساسةُ ورجال القانون والفنانون.

ومن بين من أدلى فيها بدلوه المحامي الفرنسي إيمانويل بيرات (1968) الذي أصدر، مؤخراً، كتابَ "هل يجب أن نعيد الأعمالَ الفنَّيةَ إلى أفريقيا؟"، عن "دار غاليمار". والكتاب عبارةٌ عن نصّ مدعوم بالوثائق والأرقام يَسعى من خلاله هذا المحامي، المتضلع في تاريخ الفن الأفريقي، إلى تقديم رؤية متكاملة عن هذه المسألة بعيداً عن التأكيدات السطحية والخطابات الأخلاقيّة التي يمكن أن تعوق النفاذ إلى الثقافة أو أن تَحصرها في أوساط نخبوية وفي مقولات مجرّدة.

تعود قصّة الكتاب الأولى إلى "نقاش عامٍّ"، أُطلقَ في فرنسا سنة 2018 حول ضرورة إرجاع الأعمال الفنية التي "استُجْلِبت" من مُستَعْمَراتها الأفريقية السابقة. ثمَّ تجاوز هذا النقاش الحدودَ الفرنسية ليصل إلى سائر البلاد الأوروبية والأفريقية ويتركَّز حولَ إعادة آثار الفن وأعماله إلى أصحابه الحقيقيين، دولاً وأفراداً، وحول مفهوم الملكية وانتقالها.

انطلق بيرات من إحساسٍ عارم بالمرارة والخيبة بسبب خفوت أصوات المختصين في هذا الشأن، أي: قانون الآثار الثقافية وهو من أبرزهم على الساحة العالمية، حيث تَذوب أصوات هؤلاء وسط جَلبة الساسة وأشباه المثقفين الذين يتحدثون، "بِسوء نية"، بحسب عبارة الكاتب، عن هذه المسائل كأنَّما ليبرروا ما حَصل، خلال التاريخ المعاصر، من عملياتٍ نهبٍ مُقنَّعةٍ للعديد من نتائج الأفكار والأيادي التي تألَّق فيها مبدعون أفارقة، سواءً في الفن التشكيلي أو في سائر "الصنائع اليدوية"، التي صارت اليوم تسمّى "تقليدية"، في ضربٍ من الإزراء.

ولئن بدَت هذه العبارةُ صادمةً بالنظر إلى طابَعها الذاتي ضمن نصٍّ قانوني، فلأنها تحيل على تجربةٍ ذاتية: حيث قدَّم الكاتبُ لمحاولته هذه بالتذكير ببعض العناصر التي تخصّ سيرتَه الذاتية باعتباره محامياً مختصّاً في القانون الثقافي. وقد أنجزَ العديدَ من المحاولات والتقارير القانونية، في هذا الغرض، نظراً إلى إشرافه، منذ ما يقرب من ثلاثين سنةً على عمليات "انتقال" آثار الفنّ الإفريقي إلى المتاحف الفرنسية. وغالباً ما كان عملُه يقوده هذا إلى ملاحظة ما يجري في كواليس أسواق الفن وأنماط التعامل فيها وكيفية اشتغال المتاحف، بالإضافة إلى سياسات الدول والحكومات في ما يتعلق بالحفاظ على التراث الثقافي وإيصاله من جيل إلى جيلٍ، ثمَّ ما يعتري ذلك من تلاعبٍ وتوظيفٍ وحتى من إجراءاتٍ قد تُقنِّع تجاوزاتٍ وتُخفي مخالفاتٍ.هذا، وقد زارَ المؤلف أغلبَ المتاحف التي تتضمن أجنحة أفريقية سواء في فرنسا أو في أوروبا، باعتباره أيضاً من عاشقي الأعمال الفنية التي يعود بعضها إلى القبائل الأفريقية القديمة (والبائدة). كما أكد المحامي، في مقدمته، أنَّه خاض العديد من المعارك القانونية خلال الإشراف على ميراث علماء الأنثروبولوجيا الكبار مثل كلود ليفي-شيراوس، وميشال ليريس، وجاك كرشاش، ودينيز بولم، وفرانتز فانون وغيرهم ممن اشتغل على الفن الأفريقي وعشقه.

وفي سبيل إنجاز هذا الكتاب التحليليَّ، تزوَّد صاحب "الناشرة" بالعديد من الوثائق والمعطيات لإضاءة الجوانب المعقدة في مَسألة "الإعادة". ويبدو أنَّ الصعوبة الأكبر كمنت في تحديد مفهومها القانوني الدقيق. فَحسب "قانون الميراث وأحكامه" تتمثل "الإعادة" في ردّ الأعمال التي خَرجت من عند أصحابها، بشكل غير شرعيٍّ، من بلدٍ ما إلى نفس هذا البلد. (فصل 112، قانون عدد1). وهكذا، تُعرّف "الإعادة" بكونها إرجاعَ الممتلكات الفنّية إلى أصحابها الشرعيين باعتبارهم مالكي الشيء والحائزين حق التصرف والتمتع وكلّ الصلاحيات الأخرى.وهكذا، استمر الكتاب في تقديم تحليل ممتع للجوانب الحضارية والقانونيّة لمسألة الاستعادة التي لا يمكن أن تُتناول بسطحية أو أخلاقية فتغيب كل الرهانات الحقيقية والصعوبات الواقعيّة لعمليات التسلم والتسليم التي يمكن أن تطاول مجال الإبداع الماضي.

من نفس القسم الثقافي