الثقافي

آذر نفيسي: الحق في الكراهية

تروي الكاتبة الإيرانية آذر نفيسي في "أشياء كنتُ ساكتة عنها" (دار الجمل، ترجمة علي عبد الأمير صالح)، سيرة عائلتها التي كانت شاهدة على التحولات الاجتماعية والسياسية التي عاشها بلدها، قبل الثورة الإسلامية وبعدها.

وفي مقابل إصرار النظام الحاكم في إيران على تحجيم المرأة وتقليص دورها، يبدو أن الكاتبة تقصّدت حصر ذكرياتها بين ولادة امرأتين: جدتها في بداية القرن العشرين، وابنتها في نهايته.

هكذا، تستعيد نفيسي إيرانَ أخرى لم تعد موجودةً الآن، من خلال تناولها تفاصيل صغيرة تتقاطع مع الأحداث المهمة والفاصلة في تاريخ البلد: ساعة القهوة، شجاراتها مع والدتها، غراميّات الأب، قصص الأم، دراستها في بريطانيا وأميركا، زواجها الأول والثاني، إضافة إلى قصص أولادها.

تحتل الأم في ذكريات نفيسي مساحةً كبيرةً، ما يدلّ على مدى تأثيرها على الكاتبة. تظهر الأم متسلّطةً تريد من جميع أفراد العائلة أن يخضعوا لها، ويؤمنوا بحكاياتها. تتعرّض نفيسي لأدق التفاصيل في سلوك أمها الراغبة في التدخّل في كل كبيرةٍ وصغيرةٍ. هكذا، تروي أنها، في طفولتها، دخلت في صراع مع والدتها من أجل التمتّع بحرية وضع السرير إلى جانب النافذة، في حين كانت الأم تصرّ على وضعه إلى جانب الخزانة!بعد معركة السرير هذه، التي تحسم لصالح الأم بالطبع، ستجلس آذر الصغيرة تبكي هزيمتها، ما سيدفع الأب إلى إفشاء سرٍّ لابنته: "دعينا نفعل شيئاً جديداً. لنخترع قصصنا الخاصة بنا". هكذا، يبدأان خلق عالم سريّ لم يكن للأم دور فيه.

ستتخيّل آذر أن سريرها ليس إلى جانب النافذة فقط، بل يطير بها خارج البيت، إلى مكان لا سلطةَ فيه لأحد عليها. لكن رغم ذلك، سيلاحقها الخوف من الوقوع تحت سيطرة السلطة (الأم، الزوج، الدين، الدولة)، ما يشكّل هاجساً لها طوال حياتها.

تتكرر الإشارة إلى "شاهنامة" الفردوسي في أكثر من موضع من "أشياء كنتُ ساكتةً عنها". كما أن ثمة تشابهاً مقصوداً بين الكتابين من حيث الغاية. إذ أن الفردوسي أراد أن يعيد للفرس اعتزازهم بتراثهم وثقافتهم في مواجهة التهميش الذي عانوه في زمن الحكم العربي، فاختلق تاريخاً أسطورياً وملحمياً، يبدأ بخلق العالم وينتهي بقدوم العرب. أراد أن يعيد بلاد فارس القديمة إلى الحياة، محتفياً بحضارة عظيمة ومتفجعاً على زوالها، حسب رأي الكاتبة.

أما آذر نفيسي، التي تقيم في أميركا منذ عام 1997، فهي تختلق إيران أخرى في مواجهة إيران المعاصرة الواقعة أسيرة النظام الديني المنغلق؛ لا من خلال قصص ملحمية، بل من خلال حشد الكثير من التفاصيل الهامشية في ذكريات عائلة برجوازية كان لها دورها في النظام السياسي: الأب شغل منصب محافظ طهران، وعانى وسجن من قبل، أيام حكم الشاه، والأم كانت عضواً في البرلمان.وفي هذا السياق، تقدّم الكاتبة الإيرانية للقارئ صورةً لما آل إليه بلدها تحت حكم الملالي: اغتيالات، محاكمات سريعة وغير عادلة، قوانين تحد من الحريات، قوائم الممنوعات، صور جثث معلقة في الشوارع، تضييق على الجامعات، طردها من عملها في جامعة طهران، الحرب مع العراق. وحتى الأشخاص الذين تكرههم، أجبرها النظام على التعاطف معهم.

هكذا، سيحرمها هذا النظام من حقها في مبادلة العداء مع أشخاص مثل مديرة المدرسة الصارمة التي ستعرف أنها قد وضعت في كيس ومن ثم أطلق عليها النار، والجنرال ناصري الذي دبّر مؤامرة سجن والدها وستشاهد جثته على شاشة التلفزيون. ورغم أن الكتاب يمثّل حرب نفيسي مع القمع والاستبداد اللذين يكبلان وطنها، إلا أنها تبدو هادئة ورزينة. ربما لأنها تعي جيداً أن الأدب الحقيقي وحده قادر على إزعاج السلطة.

من نفس القسم الثقافي