الثقافي

رحلة جرجي زيدان.. بحثاً عن مفاتيح نهضة العرب في دنيا الغرب

في سنة 1912، سيقوم جرجي زيدان برحلة إلى أوروبا، انطلاقا من مصر. كان هدف الرحلة أن تكون علمية وليس استجمامية، ولكنه برغم ذلك، سيجد الرحالة نفسه وقد اندهش بالبشر والعمارة والنظام في المدن الأوروبية التي زارها، حتى وإن كان سؤاله القبلي الإجابة عن إشكالية: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟

ولا يخفى في هذه الرحلة، ميل جرجي زيدان للفرنسيين، وتقديره لهم، من حيث تشديده على أهمية حملة نابليون في الارتقاء بمصر و"تمدينها"، والتي في اعتقاده زرعت أولى "بذور الحداثة".

قد يكون في ما ذهب إليه زيدان من ميل فرنسي بعض الصحة، لكن حملة نابليون لم تكن في البداية والمنتهى حملة علمية، بل كانت اجتياحا عسكريا، ولم تكن المدافع تنفث الورود بدل البارود.

يقول قاسم وهب، محرر الرحلة وكاتب مقدمتها: "مما لا شك فيه أن لحملة نابليون آثارا إيجابية نجمت عن ذلك الاحتكاك القسري بين الغرب والشرق من جانب نابليون الذي كان يحلم بالسيطرة على العالم، وإخضاعه لصولجانه بالقوة القاهرة، وهذه الآثار إنما هي من باب تأثير الغالب في المغلوب. فكيف يمكن أن نسلك بكل ذلك فضلا؟ ولو عاصر زيدان ما فعلته فرنسا بالشرق في ما بعد، لأعاد النظر في هذه التسمية".يوضح زيدان دوافع الرحلة وخلفياتها، حين يقول في مفتتحها: "قضينا صيف هذا العام في أوروبا بين فرنسا وإنكلترا وسويسرا، وتنقلنا في أهم مدائنها، فزرنا مرسيليا وليون وباريس ولندن وكمبردج ومنشستر وأوكسفورد وجنيف ولوزان وإفيان. ودرسنا أحوالها، وتفقدنا متاحفها ومكاتبها وآثارها. وتوخينا النظر على الخصوص في ما يهم قراء العربية من أحوال تلك المدنية التي أخذنا في تقليدها منذ قرن كامل ونحن نتخبط في ما يلائم أحوالنا منها. وسننشر في ما يلي خلاصة ما بلغ إليه الإمكان من الدرس. ونقتصر من ذلك على ما يهم القارئ الشرقي من حيث حاجته إلى تحدي مدنية أولئك القوم في نهضته هذه، ونبين ما يحسن أو يقبح من عوامل تلك المدنية بالنظر إلى طبائعنا وعاداتنا وأخلاقنا".

وقد أغفل زيدان في رحلته، متعمدا، ذكر التفاصيل الذاتية، المتعلقة بالأمكنة، والرحيل والنزول ومكابدات السفر، مما هو مألوف ذكره في كتب الرحالة التي على هذه الشاكلة.

لكنه خصص حيزا مهما لوصف باريس ومدن فرنسية ومؤسساتها السياسية والأمنية والعلمية من مدارس ومعاهد عليا وجامعات وازدهار ما يسميه بالتعليم الصناعي، إلى جانب التعليم الأدبي والفني والجمالي. بالإضافة إلى ما ترصده الدولة من ميزانيات كبيرة لكل هذه التخصصات. فهو يقف برهة ليقارن بين التعليم في فرنسا والتعليم في مصر، ليصل إلى حقيقة سريعة أن بناء النهضة العربية لا يمكن أن يتم إلا بإصلاح تعليمي، لأنه لب كل نهضة كيفما كانت وأنى كانت.

وفي كل ذلك، لا يخفي إعجابه بالحضارة الغربية ومنتجاتها وفنونها و"تقنيتها"، من ذلك إعجابه الشديد بنوع المسرح الفرنسي، ولعله يقصد به الكوميديا الفرنسية، التي تفجرت منها أهم النصوص النقدية للحياة الاجتماعية والسياسية، يقول "ليس المراد أن نصف المراسح التمثيلية، فإن لدينا منها أمثلة حسنة في مصر والإسكندرية، وإن كانت أقل مما في باريس، فإنها تشبهها، حتى كثيرا ما تعرض فيها روايات فرنساوية يمثلها أجواق من باريس. لكن رأينا على مراسح التمثيل في باريس وغيرها من المدائن الكبرى في فرنسا وسويسرا ضربا من التمثيل الانتقادي يسمونه في اصطلاحهم REVUE ويريدون به انتقاد العادات والأخلاق والآداب على المراسح في شكل بين الجد والهزل يلذ للمشاهد، لأنه يتعلق على الخصوص بالأمور الجارية التي يتحدث بها الناس".لكن أهم ما أذهله هو حس النظام وتجليه في الواقع اليومي للفرنسيين، وهو نظام يحكمه القانون والأخلاق، ويجعل من الحياة المدنية تخضع له، ولشروطه وأعرافه، ومكتوبه أيضا، يقول "وقد استلفت نظرنا على الخصوص أن باريس مع تزاحم الأقدام فيها لا يتنازع الركاب في المسابقة إلى الترمواي أو الأومنوبيس، ولا يسمح لأحد بالوقوف بين الركاب إذا لم يكن له مجلس فارغ. ولا يجسر أحد على الركوب في غير دوره".

وفي لندن، سيسجل الالتزام نفسه بالنظام، حيث وضعوا للناس موقفا مستطيلا، يدخله الركاب أزواجا، أوله عند محطة القطار وآخره في الشارع، وبالتالي لا مجال للفوضى أو هتك الصفوف المتراصة المنتظرة، كما يحدث في البلاد العربية.

من نفس القسم الثقافي