الثقافي
أتمنى أن يتخلّص الشِّعر العربي من هاجس صوت الجماعة
لميس سعيدي تتحدث عن واقع نشر الشعر العربي المعاصر ومقروئيته وتؤكد:
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 12 أكتوبر 2019
عبارة "شاعر مقروء" تحيلني إلى شاعر قصائدُه وكلماته صارت جزءاً من لغة الناس، وهذه تكاد تكون حالةً نادرة في الشعر الحديث؛ فالناس اليوم، يستهلكون اللغة -كما يستهلكون الأفكار والرؤى -ولا يصنعونها، وبالتالي فالشِّعر لا يهمّهم في شيء. وحين أقول إن الشِّعر لم يعد يهمّهم في شيء، أقصد حالة التفرّد والاختلاف، أي الطريق الخالي الذي نمشيه بمفردنا ويستوحشه الكثيرون. من ناحية أخرى، طبعة الديوان التي لا تتجاوز في أحسن الأحوال ألف نسخة، كافية للإجابة على هذا السؤال، تحديداً إذا كنّا نقصد حالة القراءة التي تؤثِّر وجدانياً وجمالياً وفكرياً في عدد كبير من القرّاء، في حديث مع "العربي الجديد"، باعتبار ما ذكرتُه الآن، بالطبع لستُ شاعرة مقروءة، لكن إذا أخذنا ببساطة صيغة اسم المفعول (مقروء)، التي يكفيها فاعل واحد لتتحقّق، فثمّة دائماً قارئ يرافقني في كلّ تجربة شعرية جديدة، قارئ يملك الوعي والحساسية المختلفة تجاه اللغة، هذا بالإضافة إلى العزلة الداخلية اللازمة لقراءة الشعر. غالباً ما يكون هذا القارئ "صديقاً مؤقتاً" أو مجموعة من الأصدقاء المؤقتين، والذين يملكون ما يحتاجه النص من محبة "مسبقة"، ودقة وذائقة حادة، ليكتمل هذا الأخير بمرحلة خلق المعنى والتي تتم تحديداً أثناء القراءة.
وفي ردها على سؤال حول العلاقة مع الناشر، تقول: " أتعامل مع "دار العين للنشر" في القاهرة منذ سنة 2015، حيث صدر لي كتابان ("الغرفة 102"، و"كقزم يتقدّم ببطء داخل الأسطورة")، وعلاقتي بالدار وبصاحبتها فاطمة البودي علاقة مهنية وإنسانية راقية جداً، حيث صرت أعتبرها ناشرتي التي يمكنني الاعتماد عليها حين أفكّر في أيّ مشروع يتعلّق بنشر تجربة جديدة، حتّى وإن تعلّق الأمر فقط بطلب النصيحة أو الدعم المعنوي. هذا لا يمنع أنني أتعامل أحياناً مع ناشرين آخرين، كما حدث حين نشرتُ ديواني الثالث "كمدينة تغزوها حرب أهلية" في إسبانيا سنة 2017. أمّا في ما يخص إشكاليات النشر ومشاكله، فشخصياً لا أحلم بناشر مثالي، ولكنني أحلم بسياق ثقافي واجتماعي يوفّر للكتاب ممارسة دوره الطبيعي في المجتمع. كلنا نعرف أن النشر سلسلة مركّبة، تكاد تكون كلّ حلقاتها مفقودة داخل بلدان الوطن العربي، وأن عملية الكتابة والقراءة والنشر بإمكانيات ورؤى محدودة تعكس سقف الممكن المتاح، لا تتجاوز مفهوم المقاومة ونادراً ما تصل إلى مستوى الإبداع الذي قد نطمح إليه. الإبداع الذي يحتاج إلى حرية، وأدوات لتأسيس الرؤية الجمالية والنقدية".
أما بخصوص نظرتها إلى النشر في المجلات والجرائد والمواقع فقالت: "لم يعد النشر في المجلات والجرائد والمواقع مغرياً، أو لنقل لم يعد يعكس قيمة النص أو جودته. أذكر منذ ما يقارب العشر سنوات، كان الشاعر يرسل قصيدته إلى عنوان مجلة ورقية أو إلكترونية، لا تربطه بالمشرفين عليها أية علاقة شخصية في أغلب الأحيان، وينتظر نشر نصّه الذي كان يحمل معنى الاعتراف بالموهبة أو بأن القصيدة تستحق النشر على الأقل. وكان نشر نص واحد يحفّز على الاحتفاء ولو داخلياً. اليوم يرسل لك أصدقاؤك الذين يشرفون على الصفحة الثقافية في إحدى الصحف أو المواقع، ويبادرونك بسؤال: هل من نص جديد للنشر حصرياً في صفحتنا؟ كأن الشاعر عبارة عن ماكينة لصناعة القصائد الجديدة، مع العلم أن الشاعر اليوم صار نادراً ما يملك نصاً جديداً للنشر الحصري، فهو إمّا قد نشر نصوصه الجديدة في كتاب أو على صفحته في فيسبوك".
كما تحدثت عن تأثير النشر عبر السوشيال ميديا، تقول: " ثمة من لا يعجبه نشر الشعر في فيسبوك، باعتباره فعلاً متسرّعاً يؤثّر على جودة النص. شخصياً اكتشفتُ مع التجربة أن جودة النص لا علاقة لها بسرعة النشر أو بالانتظار لأسابيع حتى يقبل مسؤول الصفحة الثقافية نشر القصيدة. ثمّة عملية كتابة داخلية للنص تحتاج إلى وقت طويل، وهو زمن التجربة الإنسانية والقراءة، وزمن اكتشاف أبعاد جديدة في علاقتنا مع اللغة، ثم غالباً ما يخرج النص بعينين مفتوحتين قادرتين على التواصل مع قارئ ما، ولكن الأهم أنهما قادرتان على رؤية عيوب القصيدة وتشوّهاتها. وهنا يصبح النشر على فيسبوك بمثابة مشاركة الآخرين لمسوداتنا، وأيّا كان تفاعل الأصدقاء الافتراضيين مع هذه المسودات، فهو يضع بيننا وبينها مسافة تجعلنا نقرأها بشكل مختلف يضيف إلى النص ولا ينقص منه. هذا ويبقى النشر على فيسبوك أحسن من مشاركة المسودات في ديوان مطبوع أو صفحة جريدة ورقية، لأنه وفي كلّ الأحوال نفتقد الممارسة النقدية التي تشكّل مرحلة مهمة من مراحل كتابة النص الأدبي، على الأقل النص المستقبلي. ما أقصده أنه في غياب آليات التحرير الأدبي والنقد والقراءة التي تعتمد على أدوات معرفية وجمالية، ينشر معظمنا، سواء في وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها، مسودات لنصوص أدبية، كانت ستكون أفضل بكثير لو كنّا نعيش في سياق يعي بأن الكاتب ليس المسؤول الوحيد عن جودة النص وتطوره. ثم ثمة من يشتغل على قصيدته لمدّة أشهر، وفي الأخير تخرج بشكل باهت، رغم كلّ شيء".
وعادت للحديث عن القارئ إذ أشارت إلى أنه نادراً ما نجد قارئاً يبحث عن الشِّعر تحديداً، أو يحفظه، مع أن الجملة الشعرية الحديثة أكثر خفة ورِقّة ومن السهل حفظها وترديدها كالنشيد. حتى الشعراء، ويا للغرابة، يُفضّلون قراءة الروايات، وهذا ما قد يفسّر تسلّل تقنية السرد من النص الروائي إلى النص الشعري. كما قلت في بداية الحوار، الشعر مرتبط بمفهوم التفرّد والاختلاف، وتشكيل رؤية وطريقة خاصة في الحياة، وحين يصبح علاقة حميمية باللغة، يتحوّل إلى طريقة لصناعتها حتى لا تشبه لغة الآخرين وبالتالي فكرهم. اللغة هي جسد الفكر وصوته. وفي عالم اليوم -والأمر لا يقتصر فقط على العالم العربي -نعيش في مجتمعات تستهلك كل شيء، من الملابس وأجهزة الهاتف، حتى الموقف السياسي والذائقة الأدبية.
وختتم كلامها تقول: "أتمنى أن يتخلّص الشِّعر العربي من هاجس صوت الجماعة. أتمنى أن يتوقّف المتلقي العربي عن مطالبة الشاعر بأن يكون صوت الحشود وصوت الشعب وصوت الأمة، وفي الوقت ذاته ألا ينساق الشاعر العربي وراء هذا الادِّعاء. إن هذه الفكرة القَبَلية والمغلوطة عن دور الشِّعر وبالتالي دور الشاعر، هي التي تعطِّل أي خطوة نحو الحرية وبالتالي أي خطوة نحو تحولات سياسية وثقافية جادّة. كيف يمكننا أن نذهب نحو نظام ديمقراطي حرّ، يعبّر فيه كلّ مواطن عن صوته الخاص في الوقت ذاته الذي نبحث فيه عن وسيط يحمل أصواتنا، فنصرخ في وجه الشاعر ونطالبه بأن يكون صوت الجموع، الجموع التي -في جميع الأحوال -لم تعد تنتظر أحداً وصارت تكتب صوتها وشعاراتها بمفردها وبلغتها الخاصة. أتمنى أن يكون الشِّعر محفِّزاً وملهِماً لكي يملك كلُّ إنسان شجاعة البحث عن صوته الخاص والتعبير عنه دون حاجة إلى جماعة يذوب صوتُه داخلها أو ينفصل عنها تماماً. يقول سعدي يوسف: "أسير مع الجميع وخطوتي وحدي"؛ ولكن حتّى هذه الرؤية تبدو غير صالحة لزمن مزدَحِم، حيث السير مع الجميع يعرِّض خطوتك للدهس وبالتالي صوتَ الشاعر الذي يجب أن يبقى صوت النقد الحرّ، للتشويه والخرس".
فريدة. س