دولي

ما أصغر الدولة

القلم الفلسطيني

يصعد الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في سبتمبر/ أيلول الذي طويت صفحته قبل أيام، منبر الأمم المتحدة مُجدداً، مطالباً المجتمع الدولي بدولة.

وبالتزامن، تعلو في شوارع رام الله وحيفا وغزة أصوات نساء فلسطينيات "طالعات" لوقف كل أنواع التّعنيف والترويع الجسدي والنفسي والجنسي والاقتصادي والسياسي الذي تعيشه النساء الفلسطينيّات يوميا، مؤكدات أن "لا وجود لوطن حرّ إلّا بنساء أحرار".

وما بين المسافة الفاصلة بين "دولة" أبو مازن و"وطن" نساء فلسطين، تقفز كلمات الشاعر محمود درويش، حين قال في "مديح الظل العالي": "ما أكبرَ الفكرة، ما أصغرَ الدولة". ما أكبر فكرة الوطن الذي حلم الفلسطيني به، وعلى محرابه ارتقى آلاف الشهداء، وعمّدت الطريق إليه طوابير من الجرحى وقوافل من الأسرى. وما أصغر الدولة، حين تتسوّل الاعتراف من المحتل، وتصغر في عيون مواطنيها.

ما بين دولة صغيرة يتسوّلها الفلسطيني الرسمي تارة من إسرائيل وأخرى من العدالة الدولية، والوطن الفكرة، الذي ناضل، ويناضل، لأجله الفلسطيني، تتسع الشقة بين مشروعين، الدولة والوطن، واحد يتبجح على بوابة جامعة بيرزيت، جامعة الشهداء "أن البلد بلده"، وآخر يصرخ على ضريح الشهيد ياسر عرفات "آه يا بلد". 

وكأن الفلسطيني الرسمي المتأنق بربطة عنق من "كريستيان ديور" وبدلة من "غوتشي"، الذاهب إلى نيويورك ليطالب العالم بـ "دولة" أو نصف دولة، قد أغفل أن الفلسطيني بكوفيته، والفلسطينية بثوبها المُطرز يطالبانه أولاً بـ "وطن" طالما حلما به.

وطن، نصت عليه وثيقة إعلان الدولة في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني العام 1988، وفيها: "إن دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا فيها يطوّرون هويتهم الوطنية والثقافية، ويتمتّعون بالمساواة الكاملة في الحقوق، تُصان فيها معتقداتهم الدينية والسياسية وكرامتهم الإنسانية، في ظل نظام ديمقراطي برلماني يقوم على أساس حرية الرأي وحرية تكوين الأحزاب ورعاية الأغلبية حقوق الأقلية واحترام الأقلية قرارات الأغلبية، وعلى العدل الاجتماعي والمساواة وعدم التمييز في الحقوق العامة على أساس العرق أو الدين أو اللون أو بين المرأة والرجل، في ظل دستورٍ يؤمن سيادة القانون والقضاء المستقل، وعلى أساس الوفاء الكامل لتراث فلسطين الروحي والحضاري في التسامح والتعايش السمح بين الأديان عبر القرون". 

فالفلسطيني الذي عاش ويعيش في رياح الدنيا الأربع، وكافح في أعتى الدول الديكتاتورية، وأبدع في أرقى الدول الديمقراطية، وسافر من أستراليا إلى كندا، ومن جنوب أفريقيا إلى السويد، وعاش في أغنى المدن وأفقر المخيمات، عاد إلى "الوطن"، ويتمسّك بحق العودة، لا تعوزه "دولة"، بل يَفتقد وطناً يتفقده، ويعيد له ما تبعثر من كرامته على طرقات التغريبة الفلسطينية، وفي منافيها القسرية. فما قيمة "الدولة" لو اعترف بها العالم أجمع، وأنكرها مواطنوها.

وما فائدة أن ترتفع الدولة في نظر العالم كله، إن هي سقطت من عيون مواطنيها. شتان ما بين "الدولة" و"الوطن"، فالأولى كيان يتسوّله في ردهات الفنادق والمنظمات الدولية، أصحاب الفخامة والسعادة والمعالي والعطوفة، اللاهثون وراء الامتيازات الوظيفية، والمكتسبات الشخصية.

أما "الوطن" فهو إستحقاق الشهداء والأسرى والصامدين من أهل الأرض، المُتمسكين بحلم الحرية والكرامة والعدالة والمساواة. 

ينسى، أو يتناسى، الباحثون عن "الدولة" الفلسطينية، أن "الدول" تزول، أما الأوطان فتدوم، تعيش في قلوب وعقول الحالمين بها، ولو كفكرة، وإلا كيف نفسّر دوام فكرة فلسطين الوطن في قلوب الملايين ممن لم تر عيونهم فلسطين، الدولة، يوماً.

تغني الشعوب للأوطان، ويكتب الشعراء قصائدهم للوطن، ويرفرف العلم الوطني مع كلمات النشيد الوطني. تهزج النساء لأوطان تحميهن، ويطلعن صارخاتٍ في وجه دولة تتمرجل عليهن، وتسقط أمام دورية عسكرية إسرائيلية تعربد على "أثخن شنب". عندما تقطمنا الدولة، نهاجر خلف البحار بحثاً عن وطنٍ يرمم ما تبقى من إنسانيتنا، وعندما تَخنق المنافي نفوسنا نعود إلى الوطن ليُطَيب أنفاسنا.

نواف التميمي

 

من نفس القسم دولي