الثقافي

"محاضرات الأدب العربي".. الرصّافي وأفكار قبل زمنها

يكشف كتاب "محاضرات الأدب العربي" الصادر في عام 1921 للشاعر العراقي معروف الرصافي (1875 - 1945) عن أحد الجوانب المجهولة إلى حد ما في ثقافته. صحيح أنه اشتهر بشعره، ولكن له بالإضافة إلى هذا "من الآثار القيمة في العلوم الأدبية واللغوية ما يسمو به إلى مرتبة أكابر أساتذة العربية في هذا العصر" على حد تعبير معاصره روفائيل بطي، كاتب مقدمة هذا العمل.

يتألف الكتاب من ثلاث محاضرات وضعها الرصافي حين كان نائباً لرئيس لجنة الترجمة والتأليف في وزارة المعارف العراقية، وقد ألقاها على مدرّسي المدارس الرسمية والمتأدبين في بغداد أثناء العطلة الصيفية في عام 1921. ويشير صاحب المقدمة إلى هذه المحاضرات، فيقول "استفاد منها فريق وحُرم فريق، لذلك طلبنا من حضرته أن يجمعها في كتاب لتطبع فتعمّ فائدتها".

المحاضرة الأولى بعنوان "مميزات اللغة العربية في أدوارها المختلفة الأدبية". وتتناول حياة العربية وأحوالها واستعمالاتها وأطوارها المختلفة منذ بدء نشأتها إلى الآن. والمقصود بالآن هو الثلث الأول من القرن العشرين. ولأن الموضوع واسع، كما قال، و"يشمل وصف الكلام من نثر وشعر في كل عصر من عصور التاريخ.. ويحتاج إلى طول البحث والتنقيب قبل التصنيف والتبويب"، خصّ كلامه بمسألة واحدة يرى أنها من أمهات المسائل المتعلقة بحياة اللغة العربية، هي بيان ما للغة العربية من مميّزات تمتاز بها في كل عصر من عصورها.ولكن قبل أن يدخل في موضوعه، يتوقف عند مسألة يبدو أنها كانت متداولة في عصره؛ هي بكلماته "زعم بعض الناس من أهل الأدب.. أن اللغة الفصحى المعربة كانت في القديم كلام الخاصة دون العامة، وأن العامة كانوا يتكلمون بلغة غير سوية كلغة العامة اليوم".

ويفند هذا الزعم، بالقول إن اختلاف لهجات القبائل جعلهم يظنون أن لغة العامة في القديم لم تكن معربة، بينما اختلاف اللهجات لا يلزم سقوط الإعراب، وإنما جاء الاختلاف بسبب القلب والإبدال والإدغام والتسكين والمدّ وما يقع مثيله على الحروف.

وينتقل بعد ذلك إلى أدوار اللغة، وهي حسب تقسيمه، الدور الجاهلي، والدور الإسلامي بتفرعاته وأدواره وهي، صدر الإسلام، فالأموي، فالعباسي، وأخيراً دور الجمود والانحطاط حيث "عمّ فساد اللغة ونال حتى لغة أهل البادية، وأصبح أهل الأدب في هذا الدور أسرى التقليد. إذا كتبوا فسجعٌ متكلف، وإذا خطبوا فكلام بارد منتحل" حسب توصيفه.

لم يفصّل الرصافي ولم يطل في بحث هذا الدور الأخير، إلا أنه في الأدوار الأولى ذكر تفاصيل مهمة كانت من مميزات العربية. يلاحظ مثلاً في الدور الجاهلي "لغة راقية جداً من أغنى اللغات لما فيها من اختلاف طرق الوضع والدلالة، واطراد التصريف والاشتقاق، وتنوّع المجاز والكناية وتعدد المترادف، وغير ذلك من النحت والقلب والإبدال والتعريب".

وفي ضوء هذا يستنتج أن عربية بهذا الكمال والسعة، من المحال أن يكون وجودها بهذه الصفة في ذلك الدور فجائياً، بل لا بد أن تكون مرّت عليها قبل الدور الجاهلي أدوار عديدة تدرجت فيها إلى أن وصلت إلى هذا الرقي العجيب.

ومن ميزات هذا الدور التي لاحظها تلك الظاهرة في المفردات والأسلوب؛ كثرة استعمال الغريب والوحشي النافر، وخشونة التعبير. وكل هذا سيتغيّر تدريجياً في الأدوار الإسلامية المتوالية، حيث يظهر تأثير الأحداث الكبرى الدينية والسياسية والاجتماعية، فتتوحّد اللغة، وتنمو وتتسع أغراضها بتأثير التعريب والاختلاط بالأمم الأخرى.

وفي إشارته إلى المعرب، يضم إليه ما ظن نقلاً عن بعضهم أنه معرب وجد في القرآن، "ومنها قوله طه واليم والربانيون، يقال إنها بالسريانية، والصراط والقسطاس بالآرامية، ومشكاة وكفلين بالحبشية، وهيت لك، يقال إنها بالحورانية".

وينقل عن هؤلاء قولهم "إن في القرآن من اللغات الرومية والهندية والفارسية والسريانية ما لا يجحده جاحد ولا يخالف فيه مخالف، حتى قال بعض السلف إن في القرآن من كل لغة من اللغات، ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليبحث في كتب التفسير عن مثل المشكاة والإستبرق والسجيل والقسطاس والياقوت والأباريق والتنور وغير ذلك".

ويبدو أن الرصافي في هذه النقطة بالذات ربما اعتمد في ما نقله على ما جمعه شيخ يدعى حمزة فتح الله من كلمات واردة في القرآن وقال إنها أعجمية، وطبعها بأمر نظارة المعارف العمومية في القاهرة في عام 1902.

من نفس القسم الثقافي