الثقافي

"عمرو بن العاص".. العقّاد ومسالك الكتابة البيوغرافية

تقدّم أعمال الكاتب المصري عباس محمود العقاد (1889-1964) مجموعة كبيرة من السِير، وهي بذلك من أكثر المدوّنات العربية اهتماماً بالكتابة البيوغرافية إذ تناول شخصيات من عصور وميادين مختلفة، مثل سعد زغلول وشكسبير وابن الرومي. ومع بعد المسافة الزمنية، قد يجد القارئ، خصوصاً ذلك الذي تعرّف على الكتابة البيوغرافية في ثقافات أخرى، أن ما قدّمه العقّاد، والثقافة العربية بشكل أعمّ، لا يخلو من نقائص في المنهجيات وفي البنية وفي التوغّل في التحقيق والتوثيق.

داخل فئة الكتب البيوغرافية للعقاد نجد فئة فرعية تتمثل في سير الشخصيات الدينية، أبرزها المجموعة التي عُرفت بـ"العبقريات" وخصّصها للخلفاء الراشدين، كما أنه تناول شخصيات أخرى منها عمرو بن العاص الذي خصّص له كتاباً صدر سنة 1954. وفي هذا العمل بالذات يمكننا التقاط رؤية العقاد في الكتابة البيوغرافية، ومنها نتحسّس كيف تنبني المسافة بينها وبين قارئ حديث شيئاً فشيئاً.

يبدأ الكتاب بهذه الجملة: "نشأ عمرو بن العاص في بطن من البطون القرشية المعروفة، وهم بنو سهم"؛ وهو مدخل لعله الأكثر بساطة على الإطلاق. إنه بعبارات اليوم قريب من التعريفات التي تقدّمها الويكيبيديا، والتي ينتظر القارئ أبعد منها حين يفتح دفّتي كتاب. ولكن هذه البداية (الخفيفة) ليست سوى عتبة أولى، فكتابة العقّاد تظل ذات مستوى معرفي لا ينكر.منهجية العقاد في وضع بيوغرافيا عمرو بن العاص تقوم على تخصيص مجموعة من الفصول الأولى لبناء صورة ذهنية للشخصية الرئيسية، حيث يذكر الصفات الجسدية، ثم يتبعها بالصفات النفسية، وهو جزء من العمل أشبه بتهيئة يمكن بعدها المرور باطمئنان إلى مختلف المرويّات التي يسمّى مجموعُها بـ سيرة شخصية تاريخية.

الصفة المفتاح في شخصية عمرو بن العاص هي الدهاء، وفي ذلك لا يخرج العقاد عن الصورة التي وضعها له مختلف المؤرخين قبله، حتى أنه يذكر -وهي رواية مشهورة- أن العرب حين أحصوا دهاتهم بعد الإسلام قالوا "معاوية للرويّة، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لكل صغيرة وكبيرة"، دون أن يلتفت لما في هذه الأحكام من أبعاد عنصرية كانت جزءاً من دعاية سياسية وقتها، حيث تُغلِّب البيت الأموي على غيره من قريش، والقرشي على غيره من العرب، والعربي على غيره من الأمم.

يتقصّى العمل في فكرة الدهاء هذه، والتي غالباً ما تبدو ذات حمولات سلبية، غير أنها من منظور آخر يمكن النظر إليها كقيمة، حيث يعرّف العقاد الداهية بـ"رجل يأنسون إلى لباقته وحيلته وحسن بصره بمواقع الأهواء وذرائع الإرضاء"، هكذا يجري تطويع الصفة إلى الشخصية وموقعها التاريخي، بل يعمل العقاد على بنائها منطقياً، فيظهر عوامل الوراثة والاكتساب التي تهيّأت لعمرو بن العاص، من خبرة التجارة والحضور بين سادة قريش والرحلات، إلى الحبشة خصوصاً، ومكانته لدى ملكها النجاشي.

من نفس القسم الثقافي