الثقافي
الهاشمي غشام.. أطلق سراح حماره ورحل
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 28 سبتمبر 2019
يحظى الحمار باهتمام كبير في الأدب، لا سيما في النصوص السردية، بقديمها وحديثها. ويكفيه فخراً أنّ أول رواية في تاريخ الإنسانية كما يرجّح هي "الحمار الذهبي"، التي ألّفها الكاتب النوميدي لوكيوس أبوليوس، المولود عام 124 بعد الميلاد في مدينة مداوروش شمال الجزائر.
الكثير من الأدباء العرب اهتموا بهذا الكائن اللطيف وضمنوا اسمه في عناوين أعمالهم. لقد أشاحوا عن نظرات التحقير والسخط حول حيوانٍ اتهم زوراً وتسرّعاً بالبلادة والقبح. ولعل الكاتب التركي الساخر عزيز نسين أبرزهم على الإطلاق، بما أنه عنون عدّة مؤلفات له بالإشارة إلى الحمير والبغال.
كتاب الروائي التونسي الهاشمي غشام (1953 ـ 2014) يندرج في هذا الإطار لأنه عنوَن روايته الصادرة حديثاً بـ"رسالة الحمار العاشق الصغير" الصادرة عن دار "أبانسيكاج". المحزن أنه بعد صدور الرواية بأيامٍ، توفي غشام فجأةً، إثر أزمةٍ قلبيةٍ في منتصف أيار/ مايو الماضي.
منذ الفصل الأول من روايته التي كتبها بالفرنسية، يتحدّث الكاتب بضمير المفرد المتكلم "أنا". قد يبدو ذلك بمثابة التلميح لتجاورٍ أو لُبسٍ بين الرواي والمؤلف. ويقول الراوي في مطلع الفصل: "بدأت حياتي مثل ملحمةٍ حقيقية.. لكن في ما بعد، تحوّلت إلى كارثةٍ مطلقةٍ، من فرط الضربات القاسية والتمزّقات التي عشتها".النص يبدأ صادماً، متوتراً، عنيفاً. ثم يستعرض وجوه التمزق التي يعاني منها الراوي. فبطل الرواية، "الحمار العاشق الصغير"، نشأ في ضيعةٍ هادئةٍ وسط لفيفٍ من الحيوانات الداجنة: خرفان وعصافير ودجاج وديكة وكلاب. أما المكان فهو قصرٌ منيفٌ في وسط الضيعة، كل ما فيه موحشٌ وضارٍ، ما جعل الحمار يعيش مُستبعداً ومنبوذاً.
رغم تراكم الوحشة والصلف في تجاويف الرواية، تلمع نقطة ضوءٍ وحيدةٍ أمام القارئ في النص، وهي أنّ قلب الحمار الصغير مترعٌ بالحب ومتوثّب ومليءٌ بالحبور. الحبّ هو المحرك الأساسي لحركته ومنبع ابتهاجه ودافع هواجسه وتطلعاته. يرتكز القص على التذكّر والتداعي الحرّ للأفكار، وعبر التطوّر الخطي للقص، تتكامل ملامح عشق الحمار الصغير لأميرة القصر الفاتنة.
وما قصة الحب إلا ذكرى قديمة تقتحم ذهن الكاتب وتتسرّب عبر مداد قلمه. مأساة البطل تكمن في أنه شابٌ فقيرٌ أميّ، بينما حبيبته أرستقراطيةٌ تجد نفسها مضطرة للانفصال عن حبيبها لتلتحق بالمدرسة. فترات اللقاء بين الحبيبين محدودةٌ تنحسر في فترة العطل والمناسبات التي تقضيها أسرتها في الريف.
حمار الهاشمي غشام حمارٌ خارقٌ، رومانسي، مغرقٌ في صميم المعاصرة والتمدّن، فهو يمشي محاطاً بالسيارات، ويستعمل التكنولوجيا الحديثة. المفاجأة أنه حين يصبح حماراً عجوزاً يسترد ملامحه الآدمية، ليتبيّن لنا أنه في الأصل مجرد شاعرٍ مغلوبٍ على أمره تقطّعت به السبل، وكان يلقي قصائده على الصخور والنجوم لأن بني جلدته من البشر لم يحفلوا بقوافيه واستعاراته. وتتكشّف لعبة الكاتب بجلاءٍ حين نرى البطل يشارك في أحداث الثورة التونسية، ويدلي برأيه في القضايا الراهنة، وفي تفاعلات المجتمع وحبائل السياسة.
في الصفحة 35 من الرواية ترد قصيدةٌ في منتهى القصر، يعلّل فيها الراوي سرّ تلبّسه بسحنة الدابة، أي عدم تمكّنه من نسيان شقائه وكمده الدائم. ورغم البكاء والتوسّل والنحيب والشكوى، يفشل فشلاً ذريعاً ولا يجد جلاً آخر سوى الانزلاق تحت جلد حمارٍ من نوعٍ خاصٍّ؛ حمار حالمٍ ومثقّف.
الهاشمي غشام فنان متعدد المواهب، فإضافة إلى انخراطه في فن الرواية، كتب نصوصاً مسرحية، من أبرزها "شريدة في الدمار"، المنتجة في أواخر التسعينات، كما أسّس فرقةً مسرحيةً في المهدية، مسقط رأسه على الساحل التونسي، علاوة على كونه فناناً تشكيلياً ومؤسس "رواق بوعبانة" في قلب العاصمة تونس.