الثقافي

منصور الصويّم.. إيقاظ آخر سلاطين دارفور

من جديد، يخوض الروائي السوداني منصور الصويِّم عوالم إقليم دارفور في روايته الجديدة "آخر السلاطين" (دار أوراق، 2014) ملقياً الضوء على تاريخ غرب السودان، من خلال سيرة آخر سلاطين دارفور علي دينار بن زكريا (1856 ـ 1916).

تعبُر الرواية بالقارئ إلى تفاصيل إنسانية وتاريخية واجتماعية ثريّة تميِّز سلطنة/إقليم دارفور، عبر 203 صفحات من القطع المتوسط، موزّعة على سبعة فصول، وينشط داخلها عدة رواة لسردٍ قصة السلطان الأخير والأسطوري علي دينار. سردٌ يمتد من أواخر أيام الحكم التركي للسودان (1821 ـ 1885) وحتى الحربين الكبيرتين اللتين شكلتا مستقبل السودان الحديث: "معركة أم درمان ـ كرري" التي أسدل بها الإنجليز الستار على الدولة المهدية (1885 ـ 1898)، و"معركة برنجيّة" التي مثَّلت النهاية الحقيقية لسلطنة الفور (1640ـ 1916)، ويتخذها الصويِّم نقطةً مرجعيَّة تدور في فلكها الأحداث.

تتضمن الرواية قصصاً كثيرة تأتي على ألسن عدد من الشخصيات المتصلة، بطريقة أو بأخرى، ببلاط السلطان، مثل "جفّال"، خادم السلطان، الذي تبدأ الرواية وتنتهي بصوته، ويسرد لـ"فكي إساغة" (الفقيه إسحق)، والد زوجته، تفاصيل المعركة الدامية التي أنهت حكم سلاطين "الفور" الذي امتد 275 عاماً، مستحضراً أحداث دولة المهدية وبدايات صعود نجم علي دينار.

ومن "جفّال" ينتقل خيط السرد إلى "الحاج عبد الماجد ود الفكي"، كاتب السلطان، الذي يحمل عبء ذكريات المذابح التي صاحبت استيلاء المهدي على الخرطوم (1885)؛ قبل أن يشتغل الصويّم على رسم صورة للسودان في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، يجمعها من التفاصيل الغنية الناتجة عن تتبُّعه قصص رواة آخرين، مثل شيخ الصاغة وأمين معمل صك العملة، "محمد آدم"، والفارس "سيف الدين البرتاوي" الذي تزودنا قصة حبّه لـ"هادية"، إحدى المرشحات للزواج من السلطان، بسجلٍّ لنظام التقاليد الدارفورية القديمة، كما تُطلِعنا على نقاشاته مع المشرف على تدريبات جيش السلطان، الضابط المصري الهارب من الجيش الإنجليزي "عبد الموجود"؛ وعلى بنية جيش دارفور، وتقاليد الحرب آنذاك.

هناك أيضاً "الشيخ الفاتح عثمان الحسين"، المعلِّم الديني في حكومة السودان والملحَق بالجيش الإنجليزي المتجه لمحاربة السلطان علي دينار، بغرض "أن يبين للناس من مسلمي تلك البلاد الدواعي الشرعية لإسقاط السلطان"؛ وهو الراوي الذي تمنحنا تساؤلاته - حول الدوافع والأسباب الحقيقية للحرب، وشكّه في مدى شرعية حرب السلطان - الكثير من التفاصيل ووجهات النظر السياسية للطرف الآخر، وهو مقصد لدى الصويّم يتجلى أيضاً بسرده لقصة مقتل السلطان على لسان جندي مجهول الاسم من جنود الحملة الإنجليزية.

إلا أن القصة التي حمّلها الصويِّم القدر الأكبر من التشويق والدلالات والإشارات المستقبلية والآنية؛ هي رحلة "جبريل" كشَّاف السلطان، المبعوث برفقة الفتى "حسين القرعاني" في مهمة إلى مركز "النهود" في إقليم كردفان، للتجسّس على الجيش الغازي، في ما يشبه رحلة في المكان والزمان والذات بأبعاد مختلفة ومتعددة المستويات، تفتح خيوط السرد على احتمالات ذكية وغير مخنوقة بالتوقعات المسبقة.

الجديد في رواية "آخر السلاطين" هو المغامرة التي يجرؤ منصور الصويِّم على خوضها، بفتح السرد ـ على غير عادته ـ لعدد كبير من الأصوات ذات الخلفيات المتباينة، وإن جمعها إطار الجغرافيا والحدث المركزي. مغامرة نقلت الصويِّم إلى مرحلة جديدة في مشروعه السردي، وبيّنت بجلاء قدرته في الحفاظ على تماسك الرواية، رغم تشابك الأصوات والأحداث وكثرتها.

 وفعلاً، لم ينجرف الروائي وراء الاستطرادات المتاحة بعيداً عن نقطة الرواية المرجعية، رغم إغراء متابعة سياق التشويق. إذ كان واعياً للبعد التأريخي الذي يؤطر عمله في تقصِّي سيرة السلطان في أيامه الأخيرة، وهو ما تظهره لغة فقهاء القرن التاسع عشر التي تناثرت في خيوط السرد. يضاف إلى ذلك ابتدار كل فصل من الفصول السبعة بمقتطف من المراسلات الرسمية للسلطان علي دينار، والسلطان العثماني، والحاكم الإنجليزي السير هارولد ماكمايكل، ومدير الاستخبارت ونجت باشا، وقائد الحملة هدلستون باشا... وهو ما سمح للصويّم بالجمع بين ما هو تاريخي محض، وما يستند على التاريخي لكنه من خيال الكاتب.

ومثل سابقاتها، تلقي "آخر السلاطين" الضوء على الميزات الإنسانية للشخصية السودانية، والدارفوريّة على وجه الخصوص، في أوقات الهزَّات والاختبارات والتحولات الكبيرة التي تُحدث شروخاً تستمر طويلاً في الشخصية الوطنية. وكأن الصويِّم أراد بذلك الإشارة إلى قدرة تلك الميزات على احتواء جذور التشوّهات التي سمحت بعد قرن من تلك الأحداث بتسرّب غول التشظّي الجاثم فوق الإقليم، والسودان كله، منذ عقود.

نذكر أخيراً أن هذه الرواية هي الرابعة لمنصور الصويّم الحاصل على "جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي" (2005)، بعد "تخوم الرماد" (2001) التي تُرجمت إلى الإنجليزية، و"ذاكرة شرير" (2006) التي ترجمت إلى الفرنسية، و"أشباح فرنساوي" (2014). وكانت "آخر السلاطين" حصلت على منحة من "الصندوق العربي للثقافة والفنون- آفاق" لكتابتها في عام 2011.

من نفس القسم الثقافي