الثقافي

رحلة نيكوس كزانتزاكي إلى فلسطين.. رؤية استشرافية

إنها رحلة ليست عادية، فهي تكتسب أهمية استثنائية من صاحبها، الروائي اليوناني نيكوس كزانتزاكي (أو كزانتزاكيس). ولو قام الكاتب بالرحلة إلى القدس في زمن آخر، غير ذلك الزمن من سنة 1926، لما كانت لها الأهمية التي ترفعها إلى مستوى الرؤية الاستشرافية، وربما التنبؤية.

فقد حدس الكاتب اليوناني الكبير، بما ستؤول إليه الأوضاع في فلسطين، بعد أن أصبح حضور الحركة الصهيونية على الأرض ملموسا في كل فلسطين، فهم يتوافدون في هجرات جماعية بشكل غير مألوف في التاريخ، ويتجمعون ويؤسسون الغيتوهات تحت رعاية الانتداب البريطاني، وهو ما دفع بكزانتزاكي إلى طرح السؤال الاستشرافي: ماذا يريد هؤلاء القادمون من مختلف أنحاء العالم من وراء التجمع في أرض فلسطين، هل يريدون تأسيس كيانهم المزعوم؟ لقد كانت نبوءته أنه في حال تحقق هذا الأمر، فإن الخراب سيحل بالمنطقة.

وهذا ما تشير إليه مقدمة الكتاب، حيث يورد المترجمان منية سمارة ومحمد الظاهر أن الحس التنبؤي عند كزانتزاكي كان حاضرا، وقد استرشد به في تقدير ما سيأتي من ويلات وما سيعم المنطقة من فوضى وما سيرتكب من جرائم في حق الشعب الفلسطيني حتى قبل أن تحل نكبة 1948.

نقرأ في المقدمة "ونحن ندرك أن هذا الكتاب سيحظى باهتمام خاص، من قبل القارئ، ذلك أنه يكشف عن الحدث التنبؤي في نظرة كزانتزاكي لهذه البلاد، لأنه في فترة مبكرة، أي منذ عام 1927، استطاع أن يستشف أن مصير وقدر الغرب ينتقل إلى الشرق، إضافة إلى إشارته إلى بروز مصر كقوة بارزة في العالم".

وتضيف المقدمة "لقد رأى كزانتزاكي أن الحلم الصهيوني سينتهي بشكل تراجيدي، وكان ينظر إلى الشتات كحتمية تاريخية، شكلت الجنس العبري عكس مشيئته ورغباته، وهكذا شكلته في خميرة الأرض، ودفعته إلى لعب دوره الخاص في التاريخ".وكتاب "رحلة إلى فلسطين"، هو في أصله مشاهدات كان نشرها كزانتزاكي في صحيفة "اليغيثروس لوغوس" اليونانية، حيث أوفدته الصحيفة إلى فلسطين سنة 1926 لتغطية عيد الفصح، ونشرها في الصحيفة في العام نفسه، ثم صدرت في كتاب بعنوان "ترحال"، يشمل جولاته في كل من فلسطين ومصر وإيطاليا وقبرص.وتشكل المشاهدات الخاصة بفلسطين، مادة شيقة، لكاتب يمتلك الخاصيات الأسلوبية الرفيعة والسحر الذي يعرفه عنه القارئ، المستمد من أدبه وآثاره الكبرى.

يطرح كزانتزاكي أسئلة وجودية عميقة حول المعنى، معنى الحياة والبشر، وهذا الإصرار على تحقيق شيء ما أو إبراز حقيقة معينة، في حين أن لا شيء حسمه البشر رغم كل هذا الإصرار منذ عشرات القرون، يقول "كنت أراقب الحجاج المسافرين بفضول، وأتساءل: ما هي الدرجة التي وصل إليها الإنسان المعاصر، بعد تسعة عشر قرنا من السعي، والإنجازات، التي دفعته لتحقيق هذا العشق العميق، في مغادرة بيته، والبدء في هذه الرحلة الشاقة والمكلفة، إلى الشرق، بين العرب، للعبادة في هذا المعبد المسيحي، الذي لم يعرف كنهه بعد؟".

من نفس القسم الثقافي