الثقافي

لي باي.. متنبّي الصين بالإنكليزية

يتّخذ الكاتب من كل قصيدة مدخلاً إلى جانب من حياة الشاعر

لعلّ جريراً (650 - 728م) والفرزدق (641 - 730) كانا بصدد معركة بلاغية جديدة حين غادر أشهر شعراء الصين لي باي (701 - 762) بلدته في مقاطعة سيشوان الحالية، تاركاً بيتَ أهله لأوّل مرّة سنة 718م. لكنهما كانا قد رحلا كلاهما حين التقى ونظيره دو فو (712 - 770) سنة 744.

وعلى ما في زمان الشاعرَين العربيَّين من نبوغ وآصرة تواصل بين قمّتين أدبيّتين هما العصران الجاهلي والعباسي، فإن نهايات العصر الأُموي في شبه الجزيرة لم تكن أوج الإبداع الشعري العربي بحال، وهو ما لا ينطبق على الفترة نفسها من حكم أسرة تانغ (618 - 907) في الصين؛ حيث القرن الثامن الصيني يقابل العاشر العربي ثقافياً بالتقريب.

ليس من قبيل الصدفة إذاً أنّ "الخالد المنفيّ" (من السماء) - كُنية لي باي وعنوان أوّل سيرة وافية لحياته بالإنكليزية، أنجزها الروائي الصيني الأميركي ها جين (مواليد 1956) وأثارت اهتماماً واسعاً إثر صدورها هذا العام في الولايات المتّحدة عن دار "بانثيون" (من مجموعة "نوبف - دبلداي" المملوكة لشركة "بنغوين- راندوم هاوس" العملاقة) - إنما تُذكّر بكُنية أخرى: "المتنبّي".

ولعل هذا بعض أهمّ ما يَعني قارئاً عربياً من سيرة لي باي الجديدة: إن أخبار الشاعر، فضلاً عن عبقريته ورواج مُنجَزه إلى اليوم وسْط المتكلّمين بالصينية على تباين وتعدّد لهجاتهم، بمثابة صدىً يتردّد - عبر لغة وثقافة ثالثتين - لما قد نَعرفه من آثار أحمد بن حسين أبو الطيب (915 - 965)، الملقّب بالمتنبّي لفرط اعتداده بنفسه، إن لم يكن لادعائه النبوّة بالفعل.

كلاهما شخصية مأساوية لا تفتقر حياتها إلى أسباب النشوة - ولِـ لي باي خمريات لا تضاهي أبا نواس بقدر ما تُذكّر بشعراء الصوفية: "جوادي الأرقش وردائي البديع من الفراء/ دع صبيّك يأخذهما إلى الدكان/ ويستبدلهما بالمُدام/ حتى نغرق فيه أحزان عشرة آلاف سنة" - وكلاهما علامة في تاريخ لغته نفذتْ نصوصها إلى تعابير وأمثال تلك اللغة وترسّخت كمرجعية مركزية في آدابها ومفاهيمها عن شخصية الشاعر.

يجمع الشاعرَين طموحٌ دونكيشوتي إلى لعب دور سياسي أو حربي لا يعي أيهما أنه غير مؤهَّل له: أن يلحِق كافور الإخشيدي بأبي الطيب "ضيعة أو ولاية"، مثلاً، أو أن يصير لي باي أحد رجالات القصر المُنظّرين لسياسة الحكم سواء باجتياز امتحان الخدمة الحكومية أو عن طريق أخرى لعلّها الانضمام للجيش.

وثمّة حكاية ترد في الكتاب عن رحلة قام بها مع أحد أصدقائه لزيارة والد صديق له، وهو لواء جيش يتمركز على الحدود، وبعد أن يلاقي استحساناً من الأعيان والضبّاط هناك، يفكر في البقاء كجندي، الأمر الذي أثناه عنه صديقه حين كشف له ما يعانيه الأب وقوّاته من شظف العيش والإهمال من جانب تشانغان؛ حتى أنهم كانوا يُجبَرون على القتال العشوائي بلا معنى أو منطق ودون أي نظر إلى سلامتهم، وقد فقدوا الأمل في العودة إلى وَسَط البلاد.

كتب لي باي إذاك، وقد صدمه ما كشفه له صديقه، إحدى أشهر قصائده على لسان الجنود: "جيادُ الشمال لا تُفكّر في الجنوب/ حيث لا تَصبو البهائم إلى الشمال/ لقد انبثقتْ عاداتها وحيواتُها/ عن البيئة الأصليّة/ منذ زمن بعيد عَبَرنا طريق هجرة الإوز/ وقد بقينا في هذه الأرض الهجريّة/ عواصفُ الرمال تُغبّش منظر الشمس ومنظر السهول/ والجليد الطائر يسدّ عنا السماء الأجنبية/ اكتسح القَمْل ثيابنا وأوعية بريدنا الجلدية/ لكنّنا مصممون على إبقاء راياتنا مُشرَعَة/ كم معركة مريرة ظفرنا بها لكن بلا مكافأة/ ولا يُعتَرَف أبداً بتفانينا/ من ذا الذي أشفق على اللواء لي السريع/ الذي فقد رأسه الأشيب في الصحراء؟".

وهكذا صاغ مَرويّته ذات الفصول الستة والعشرين (مع ديباجة) حول قصائد اختارها وترجمها - هو الذي بدأ حياته الأدبية شاعراً - مضمّناً الكتابَ نصّها الأصلي بالمقاطع الصينية فوق الحروف اللاتينية. إنه يتّخذ القصيدة مدخلاً إلى جانب من حياة الشاعر يَحكيه بكل ما استطاعه من تفصيل، مُحافِظاً على خط زمني مستقيم وإن أتاحت له تعرُّجات المسار والفجوات الواسعة في المعلومات الموثقة أن يُفرِد بعض الفصول لمواضيع تاريخية ذات صلة.

ثمّة سَرْدٌ شيّق لأحوال العاصمة تشانغان وسكّان قصرها الإمبراطوري على سبيل المثال. فهناك جرّب الشاعر حظه أكثر من مرة، وبلغ من المكانة أن الإمبراطور شوانزونغ صبّ له الحساء بيديه، إلا أنه سرعان ما ملّ حياة البلاط ووقع فريسة مكائده.

ولعل هذا أوضح ما يمكن أن يُؤخَذ على سيرة لي باي الجديدة رغم ما فيها من معلومات غير متوفّرة من قَبلُ بأي لغة سوى الصينية مع سلاسة في السرد ودقّة في التفريق بين الأسطوري والتاريخي وفي تحديد الإطار الجغرافي والزمني للأحداث: إنَّ ها جين الذي عمِل منذ تخرّجه مُعلّماً يُدرّس ليس الكتابة الإبداعية وحدها ولكن "المحفوظات" أيضاً، يكتب كما لو كان يُلقي سلسلة محاضرات أكاديمية لا تهدِف إلى بلوغ أي ذروة، فنيّة أكانت أو فكرية، ولا تسعى إلى التحقّق الأدبي عبر محاولة إدراك ما يدور في رأس الشخصية التي تباشرها أو التوحّد معها على أي وجه.

حتى ترجمات ها جين الجديدة لبعض أشهر قصائد لي باي - والتي امتُدِحتْ دقّتها وبساطة أدائها بالمقارنة ببعض ترجمات علماء الصينيات منذ القرن التاسع عشر - لا توفّر معادِلاً إبداعياً للنص الأصلي بقدر ما تطرح فكرةً مبسّطة عن شكله وشرحاً تقليديّاً لمحتواه.

الوكالات

من نفس القسم الثقافي