الثقافي

سبيل غصوب و"الأنف اليهودي" : البطل طليقاً فوق الترسيمات

عن دار "لانتيلوب"، صدرت باكورة الكاتب سبيل غصّوب (1988)، المولود في باريس من أبوَين لبنانيَّين، تحت عنوان "الأنف اليهودي". روايةٌ صغيرة الحجم تنتمي إلى تجربة الكاتب الشخصية، كالكثير من الأعمال التي يفتتح بها معظم الكتّاب مسارهم الأدبي، والتي يصعب وضعها داخل الهمّ الروائي بالمعنى التقني للكلمة، والذي يستند إلى مشروعٍ كتابي له ملامحه وتوجّهاته الواضحة.

يُمكن القول إن الرواية، الصادرة باللغة الفرنسية، تنطلق من همٍّ في التعبير عن تجربة ومعاناة جديرتَين بالإنصات اليهما، أكثر مما تصدُر عن هم الهندسة الروائية. مع ذلك، فهي تشي بقدرة على السرد وحيوية في التعبير رفيعتَين تضعان القارئ أمام كاتبٍ موهوب بالتأكيد.

درس غصّوب ومارس التصوير الفوتوغرافي وأدار أنشطة ثقافيةً عدّة بين باريس وبيروت (هو بالمناسبة ابن الكاتب والشاعر اللبناني قيصر غصوب). وفي روايته، يحضُر كشخصية رئيسيةٍ، وإن كان مقنّعاً باسم "ألِف"؛ حيثُ تمدّ الحياةُ الشخصيةُ العملَ بنسغها وتكسوه بعناصر السرد التي تُشكّل المسار المتشعب والمتداخل الذي عبرته حياة هذا الشاب بين حضارتَين متنازعتَين ومتكاملتَين في آن، راصدةً انعكاس ذلك في شكل أسئلة إشكالية صعبة.

يُحيل "الأنف اليهودي" إلى الكاتب نفسه، وقد وُسم بهذا الوصف منذ طفولته، لشبهٍ لا تخطئه العين في أنفه بأنوف العديد من اليهود. وكتأكيدٍ على ذلك، تصدّرت غلافَ الرواية صورة غصّوب بأنفه "اليهودي".

وصدّر غصّوب روايتَه بعبارة تُنسب للكاتب والمترجم والموسيقي الفرنسي اليهودي سيرج غينسبور، يُعلّق فيها بشكل طريف على أنفه: "اليهودية ليست ديناً، فما من ديانة على الإطلاق تصنع أنفاً كهذا"!

نعْت "اليهودي" الذي لازَم "ألِف" منذ صغره لم يكن مجرّد طرفة عائلية، فهو لم يستسغها يوماً، لانطوائها على هزء وسخرية من أنفه المفتقر إلى الجمال، كما كانت ترى والدته. وعلى غير المتوقّع، لم يسعَ ليثبت لأمّه عكس ما ترى في أنفه، رغم وجود بعض الإشارات إلى علاقاته الناجحة مع الفتيات، بل سيغدو هذا النعت مع الأيام مفتاحاً لأسئلة متشابكة سيصنع منها الكاتب عالماً من السرد طريفاً وممتعاً.

مرّةً، يواجه "ألِف" من يصفه بأنه "يهودي قذر"، وأُخرى بـ "عربي قذر". وسيتعرّض إلى محاولة طردٍ من قاعة احتفال دخلها متضامناً مع أهالي غزّة، قبل أن يتدخّل أحد معارفه المشاركين في تنظيم الاحتفال. وبلا شكّ، فإن من بادر إلى طرده استند في موقفه إلى "الأنف اليهودي" الحاضر في كل المواجهات التي يتعرّض إليها.سينسج له هذا الأنف قصّة كما فعل حذاء أبي القاسم الطنبوري في الحكاية التراثية المعروفة. وإذا كان قدر الطنبوري مع حذائه يتسبّب بمواقف طريفة ومسلّية، فإن أنف "ألِف" سيكون حاضراً في سلسلة من المواقف والمواجهات المبلّلة بالمرارة.

من بيروت إلى صيدا إلى عاليه إلى شكا إلى وادي أبو جميل إلى بوابة فاطمة في لبنان، ومن اليمن إلى أميركا، مروراً بتركيا وفلسطين ثمّ فرنسا بالتأكيد حيث يطارِد قصص الحب والسينما والموسيقى والمواقف السياسية التي تشغله، تدور حياة شاب قلق ومتأهّب للمغامرة بمعناها الواسع.

وجهٌ آخر من وجوه الهوية يكشف عن أزمته في مسيرة "ألِف" هو التصنيف. وهذا الوجه تتشابك فيه القيم المجتمعية وتقسيم العمل كما رست عليه الحضارة المعاصرة. يجد بطل الرواية نفسه في مكان يصعب تصنيفه: هل هو مصوّر فوتوغرافي؟ منشّط اجتماعي؟ سينمائي؟ صحافي؟ روائي؟ هل هو باحث عن موقعه السياسي؟ عن هوية ما تدلّ عليه؟

كيف نصف سبيل غصّوب، أخيراً، وكيف يُعرَّف شاب يرى في انتشاره فوق جميع هذه المسارح حقّاً طبيعيّاً لعقله ولجسده؟ ألا ترجع كل مظاهر الهوية المأزومة إلى فضاء معرفي واحد؟ قد تكون تلك بعض الأسئلة التي تتركها الرواية بعد الانتهاء من قراءتها.

من نفس القسم الثقافي