الثقافي

"المُخلِص دوماً، فنسنت": عودة الهولندي الأحمر

مع الذكرى الثامنة والعشرين بعد المئة على وفاة فنسنت فان غوخ في 29 تمّوز/ يوليو 1890، تكون قد مرّت قرابة ستّة أشهر على صدور كتاب "المُخلِص دوماً، فنسنت… الجواهر من رسائل فان غوخ" من تحرير ياسر عبد اللطيف.

وقد تزامن العمل، الذي صدر عن "دار الكتب خان"، مع العرض القاهري الأول، في "سينما زاوية"، للفيلم الإنكليزي/ البولندي "المحبّ فنسنت" (2017)، الذي أخرجه كلّ من دوروتا كوبيلا وهيو ويلتشمان. ربما لذلك يملأ اسم فان غوخ وصورُه الصحف المصرية على نحوٍ غير مسبوق هذه الأيام، الأمر الذي يُشعِر بعضَنا بما يشبه انفضاح السر، وكأن شيئاً خاصّاً وخفيّاً ينكشّف فجأة للعيان.

قبل نحو خمسة وعشرين عاماً من صدور ذلك الكتاب، كنتُ طالب آداب مستوحشاً في أصقاع الشمال الإنكليزي. غادرتُ بيت أهلي ساخطاً في السابعة عشرة. ومثل "أشهر فنّان في العالم"، قصدت بلاد الناس أبحث عن معنى الحياة. إلى هنالك هدمت الجسور وخسرت السكينة. صرتُ هائماً على وجهي مغضوباً عليّ. لكن العالم الواسع الذي اقترفت ذلك من أجله بدا أضيق من خرم إبرة، تماماً كما بدا لابن القس البروتستانتي طريد العائلة سنة 1874. في النهارات الخاطفة المسحوبة منها الشمس، وسط بيض البشرة ذوي العاطفة المبسورة، غلبتني حسرة لم أجد من يعبّر عنها خيراً من فنسنت فان غوخ.

لم أكن التقيت ياسر عبد اللطيف حين بدأت أنسج من شذراتي قصصاً، كما نصحني أن أفعل صديقُنا المشترك ومعلّمي الأول علاء الديب، وأصدرتُ إحدى أولى هذه القصص بترجمة حرّة لعبارة كتبها فنسنت في رسالة إلى أخيه تيو: "ونحن الراغبون في الحياة إلى هذا الحدّ، لماذا لا يمكننا أن نعيش أكثر؟". في الخيال البسيط، جعلت نفسي رسّاماً تطارده "خيالات فان غوخ". استدعيتُ مشاهد من حياته إلى قاهرة التسعينيات حيث يعيش الرسّام، وعنونتُ أطول القصص وأبدعها، التي أهديتها إلى "الأستاذ علاء"، "أزهار الشمس".

كنتُ شغوفاً، ليس بلوحات عبّاد الشمس الشهيرة، ولكن بضربات اللون السميكة التي تُذكّر، في الآن ذاته، بالحركة في الصورة الفوتوغرافية الثابتة والزخرفة في الفنون الشرقية. كأن الفرشاة متّصلة بالأعصاب العارية مباشرة، لا حاجة لها إلى يدٍ أو عينَين؛ فلوحة مثل "حقل القمح مع الغربان" (تمّوز/ يوليو 1890)، آخر أعمال فان غوخ، لا تنطوي على منظر طبيعي بقدر ما تنطوي على وعي إنسان يطالع ذلك المنظر، وهذا الإنسان غير مستعدّ لأيّ تنازل أو تهاون في نقل ما يراه كما يراه. كأنه يُصوّر جانباً من محتوى دماغه.

غير أن ما جعل فان غوخ رفيقي الملازم في تلك الفترة المبكّرة لم يكن فنّه الذي لم أر منه لوحة أصلية واحدة. إنه صوته الذي سمعته في رسائله إلى أخيه. ولا أذكر متى بالضبط حصلتُ على مختارات رونالد دي لييو التي ترجمها أرنولد بوميرانس عن طبعة متحف فان غوخ لعام 1996، بينما يتم تجميع وتحقيق الرسائل الكاملة التي ستظهر مع اسكتشات أصلية وصور للمخطوطات المصحوبة برسوم في ثلاثة مجلّدات ضخمة سنة 2000، ثم مع المزيد من التنقيح في ستّة مجلّدات سنة 2009.

أتذكّر الكتاب الصغير ذا الغلاف الورقي الأبيض يتوسّطه "بورتريه ساعي البريد جوزيف رولان" (1888). أتذكّر وجه محرّره الإنكليزي مارك روسكيل يشغل صفحة كاملة بالأبيض والأسود. قبل أن أُتمّ العشرين، بدت لي ملامح روسكيل البارزة دليلاً إضافياً على مأزق الوجود.

الآن هناك نسخة عربية لـ"الرسائل الضرورية" (متحف فان غوخ، 2014) وهي الإصدار المختصر للرسائل الكاملة، تتضمّن 265 من أصل 903 رسائل. أعدّها محرّرو الرسائل ليو يانسن وهانز لويتن ونيينكه باكر، ثم ترجمها عن الإنكليزية ياسر عبد اللطيف ومحمد مجدي (هيرمس)، لتنشره كرم يوسف صاحبة مكتبة ودار "الكتب خان". حين رأيت المجلّد للمرة الأولى أعجبتني جودة الطباعة وفصل الألوان بالفعل. لكن ما لفتني هو أن العمل مهدى إلى روح اثنَين أحدهما علاء الديب.

يوسف رخا

 
 

من نفس القسم الثقافي