الثقافي
الأمير عبد القادر.. وريث ابن عربي
ظلّ حريصاً على حمل مكتبته معه في تنقّلاته أيّاً كانت ظروفه
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 07 سبتمبر 2019
في تقديمه للطبعة العربية من كتابه "عبد القادر الجزائري"، التي صدرت عن "دار عطية" سنة 1997 بترجمة ميشيل خوري، يعتبر الكاتب الفرنسي برونو إيتيان (1937 – 2009) أنَّ حياة الأمير عبد القادر الجزائري (1808 - 1883) وأعماله تدعو، أكثر من أيّ شيء آخر، إلى كتابةٍ تأويلية أكثر منها إلى كتابة سيرة حياة، مُفسّراً ذلك بصعوبة تتبُّع حياته بسبب احتجاب شخصيته الحقيقية وراء ما يُسمّيه "الأسطورة الوطنية الجزائرية".
برأي إيتيان، الذي يُعدّ مِن أبرز مَن كتبوا سيرة عبد القادر بن مُحيي الدين الجزائري، الذي تمرّ اليوم الذكرى الحادية عشر بعد المئتَين لميلاده، فإنَّ حياة الرجل الفعلية كانت "نوعاً من السرّ الروحي"؛ فحتى وهو يمارس دوره في تسيير الشؤون العامة، يكون في صميمه غائباً عن العالم، مُعتبراً ذلك تجسيداً لما يُسمّيه ماكس فيبر "النموذج المثالي للبراعة الدينية"، التي تعني أن تكون في صميم الحياة الاجتماعية وأنت خارجٌ عنها.
على أنَّ ذلك ليس سوى سببٍ واحد من بين أسباب كثيرة تجعل من تتبُّع سيرة الأمير عبد القادر أمراً بالغ الصعوبة؛ ومن بينها أنّه كان قائداً عسكرياً، وشاعراً، ورجل دين ومتصوّفاً في آن، وهذا التعدُّد سينسحب أيضاً على الأماكن التي عاش فيها؛ بدايةً من مسقط رأسه معسكر في الغرب الجزائري حيثُ بويع أميراً سنة 1832 وشكّل جيشاً لمقاومة الاحتلال الفرنسي الذي كانت قد مّرت سنتان على دخوله إلى الجزائر، ووصولاً إلى دمشق التي رحل فيها، وقد كان له دورٌ في إنهاءٍ فتنة طائفية نشبت بين دروزها وموارنتها سنة 1860.
وهكذا، بدا أنَّ كلَّ طرفٍ أو تيار تناول الجزء الذي أراد أن يراه من سيرة الرجل، وهو أمرٌ انتبه إليه إيتيان نفسُه حين كتب: "الوطنيّون الجزائريّون، مثلاً، يكتفون بنشاطه السياسي، بينما يهتمّ المتصوّفون أو المسلمون الورعون بدراسة مؤلفاته الباطنية وتعالميه الصوفية وسلوكه كمؤمن وأمير في آن معاً... وكأنّ كلّاً من هذه الفعاليات يُمكن أن تكون غريبةً عن الأُخرى".
إحدى أكثر المسائل التي لا تزال تُسيل الحبر وتثير جدلاً في مسار الأمير عبد القادر، الذي يُلقَّب بـ "مؤسّس الدولة الجزائرية الحديثة"، هو استلامه للفرنسيّين في كانون الأوّل/ ديسمبر سنة 1847، وفق شروطٍ أملاها عليهم، من بينها السماح له بالانتقال إلى عكّا في فلسطين أو الإسكندرية في مصر، لكنّ الجنرال لامورسيِير، قائد الجيوش الفرنسية حينها، نقض وعده، ونقله إلى فرنسا حيثُ سُجن حتى عام 1852.
تُقرأ هذه المحطّة المفصلية غالباً من زاويتَين، تستعيد الأولى الظروف الموضوعية للاستسلام، متمثّلةً في الانتصار العسكري الذي حقّقه الفرنسيّون ما دفع الأمير إلى اتّخاذ قراره حقناً لدماء الأهالي ومن تبقّى معه من المقاتلين، بينما تنظر الثانية إلى تداعيات الاستسلام؛ حيثُ تفرّغت جيوش الاستعمار لمواجهة المقاومة الشعبية في شرق البلاد بعد أن أخمدتها في غربه.
لا يُمكن فصل الجانب الثقافي عن الجانبين السياسي والعسكري في مسار الأمير، وهو ما يذكره إيتيان في الكتاب نفسه حين يقول: "لا يتطرّق الشكّ أبداً إلى نشاط الأمير الثقافي، فقد اكتشف أعداؤه ومناهضوه خلال مرحلة المقاومة في الجزائر (1832 - 1847) أهمية ثقافة عبد القادر الفلسفية والدينية من حرصه المستمر على أن يحمل معه، أيّاً كانت الظروف، مكتبةً، نهبها وبعثر محتوياتها المعسكر الفرنسي".
يتجلّى هذا الجانب في مؤلّفات الأمير؛ وهي متعدّدة بين الشعر والتصوُّف والفلسفة، لكنَّ أبرزها كتابه "المواقف الروحية والفيوضات السبوحية"، والذي يُعرف اختصاراً بكتاب "المواقف"، وفيه تفسير لبعض الآيات القرآنية وأحاديث النبي محمد في قالب صوفي، يمزج الفقه بالتاريخ، وقد ترجم أجزاء منه إلى الفرنسية شود كويتز الذي يعتبر الأمير، في دراسةٍ له، بمثابة "الوريث الشرعي للمتصوّف الكبير ابن عربي".
مريم. ع