الثقافي
كاسيرر بالعربية
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 27 أوت 2019
لا يسع المتتبّعَ لما يُترجَم إلى العربية في مجالات الفلسفة وعلوم الإنسان إلّا أن يسعد بترجمة كتاب "فلسفة التنوير" للفيلسوف ومؤرّخ الفلسفة الألماني إرنست كاسيرر (1874 - 1945)، إليها، وخصوصاً في سياق عربي لا يطرح كثيراً سؤال ماذا نُترجِم؟ ولا يتوفّر على تقاليد راسخة في نقد الترجمة، حتى تكاد تنطبق عليه مقولة الكاتب النمساوي كارل كراوس: "هوت شمس الثقافة أرضاً، حتى أصبح الأقزام أنفسُهم يظهرون بمظهر العمالقة".
تبدو ترجمة "فلسفة التنوير"، التي صدرت عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بإنجاز الباحث الفلسطيني إبراهيم أبو هشهش، بمثابة الاستثناء في هذه الصحراء المجدبة، وهو استثناء على أكثر من مستوى؛ فمن جهةٍ، لأهمية الكتاب التي لا يختلف حولها اثنان، فنحن أمام عملٍ نسَقي بامتياز حول فلسفة التنوير، ومسحٍ شامل للقرن الثامن عشر وتياراته العلمية والفلسفية والدينية والجمالية، وسبرٍ للعلاقات القائمة بين مختلف هذه المجالات ولأشكال التأثير والتأثّر بينها، ولما تبقّى من القرن السابع عشر، ولما استمرّ من القرن الثامن عشر، وهو أمرٌ لم تكن الفلسفة الغربية لتجد أفضل من كاسيرر، الفيلسوف الموسوعي والمطّلع على مختلف التقاليد الفلسفية الغربية، للقيام به.
تمثّلُ الترجمة استثناءً أيضاً لجهة استضافتها المتميّزة للنص الأصلي في لغة الضاد، ونجاحها في نقل مفاهيمه الأساسية إلى العربية، والمحافظة على سلاسة أسلوب كاسيرر وكثافته في آن، كما أنها تأتي لتسد نقصاً كبيراً في المكتبة العربية في ما يتعلّق بفلسفة التنوير خصوصاً، والقرن الثامن عشر الأوروبي عموماً. ولا ريب أن القارئ العربي اليوم أكثرُ حاجةً إلى هذا الكتاب من القارئ الغربي، ولعلّه سيكتشف، وهو يقرأه، كيف أنّنا ما زلنا نعيش سياسياً على أعتاب القرن السابع عشر، وعلمياً قبل القرن السادس عشر، وفلسفياً قبل القرن الثامن عشر، وسيقف من جهة ثانية على شجاعة المفكّرين التنويريّين وتضحياتهم، ونقدهم غير المشروط، كما سيقف على أسئلة ما زالت تقضّ مضجعه حتى اليوم.
يبدو "فلسفة التنوير" بمثابة كتاب المرحلة، على الأقل في ما يتعلّق بتفكير حركة التنوير في السياسة والدين، صدر العمل عام 1932 باللغة الألمانية، أي سنةً قبل هروب صاحبه من النازية إلى بريطانيا، ومنها إلى السويد التي سيحصل على جنسيّتها، ليرحل بعدها إلى الولايات المتّحدة للتدريس في جامعاتها.
ويقدّم الكتاب - كما أوضح غيرالد هارتونغ في مقدّمته - "تاريخ أفكار عصر التنوير"، ذلك أنّه "لا يعالج تطوُّر كلّ نظام فلسفي بمقدار ما يتناول الحركة العامّة للأفكار"، أو كما كتب كاسيرر نفسُه في المقدّمة: "لم يكن المطلوب هنا مجرّد سرد ملحمي لمسار فلسفة التنوير وتطوُّرها ومصيرها، فما كان ذلك ممكناً، بل تعلّق الأمر أكثر بتجْلية الحركة الداخلية المتحقّقة فيها".
وينقسم العمل إلى سبعة فصول، تدور أهمُّها، بالنظر إلى السياق العربي، حول فكرة الدين واكتشاف التاريخ والعلاقة بين الدولة والمجتمع. إنه كتاب لم يفقد شيئاً من راهنيّته الفلسفية والسياسية.