الثقافي

عبد المحسن طه بدر.. إنسانية تُحرر الأدب

مع أن كتاب "حول الأديب والواقع" للناقد والأكاديمي المصري عبد المحسن طه بدر (1932 - 1990) صدر عام 1971، إلّا أنه ضمّ إليه، في طبعته الثانية، ثلاث مقالات من قديم ما كتب حيث ترجع إلى عام 1956؛ أبرزها مقال "الشعر العربي والتجربة الإنسانية"، وكان مقالاً لافتاً للنظر طرح فيه المؤلّف فروضاً مهمّة لم تُختبر كما يقول "اختباراً علمياً كافياً".

أسف الكاتب وهو يعيد نشرها، لأن الكثير من فروضه ما زال في الوضع نفسه، ولاحظ "أن فروضاً مضادّة تُطرَح منذ سنوات في مجال حياتنا النقدية، وكأننا سنظل باستمرار في مرحلة طرح الفروض والفروض المضادة، من دون القيام بما يفرضه طرح هذه الفروض من ضرورة اختبارها علمياً، لتصبح دراسات علمية جادة، ينشأ عنها تأصيل نقدنا أو ظهور مدارسه المتميزة بدل اللهاث المستمر المحموم خلف ما تطرحه علينا الثقافة العالمية، مما لا يدع لنا فرصة للتجريب والتأصيل".حين نشر هذا المقال للمرة الأولى على صفحات مجلّة "الآداب" اللبنانية، وقبل أن تضمّه صفحات الكتاب المشار إليه، قدّمه رئيس تحرير المجلة، سهيل إدريس (1925 - 2008) بالكلمات التالية: "يكشف هذا المقال عن تقييم جديد للشعر العربي، قديمه وحديثه، لا ينقصه العمق.. والجرأة. والآداب إذ تنشر هذا المقال تاركةً مناقشته للأدباء ونقّاد الشعر منهم بصورة خاصة".

ولم تحدث هذه المطالبة ما تمناه صاحبها من نقاش، وبدلاً من ذلك واجهت المقالَ ردودُ أفعال عاصفة أقلّ ما يُقال فيها أنها أساءت فهم فروض المقال ونسبت إلى كاتبه ما لم يقله، فظهر أشبه ببذور أُلقيت في أرض قاحلة ولم تسقط عليها قطرة مطر فظلّت مهمَلة منسية.

بين المقالات الثلاث، ضمّ الكتاب مقالاً عنوانه "الأدب والتجربة"، كان شبه تقديم للفروض الرئيسية التي تضمّنها مقال "الشعر العربي والتجربة الإنسانية"، وبجواره ضم الكتاب عدداً من الدراسات التطبيقية جاءت في وقتها أيضاً كما لو أنها توسيع للدائرة ذاتها؛ علاقة الأدب بالتجربة، تناول أحدها مجموعة شعرية لنزار قباني تحت عنوان "بين صوت الشاعر وصوت الواعظ"، وتناول آخر رواية لـ مطاع صفدي المسماة "جيل القدر" تحت عنوان "فرض الذات على الموضوع"، وقدّم المقال الثالث ملامح من تجربة فدوى طوقان تحت عنوان "بين الانغلاق والانفتاح".

في مقال "الأدب والتجربة" التمهيدي محاولة للتأكيد على مفهوم التجربة في الأدب، شعوراً من الكاتب، كما يقول "باختلاط القيم في مجتمعنا العربي.. وبالحاجة إلى تكوين قيم جديدة حقيقية نابعة من الوعي الصادق بوجودنا الحقيقي والحي". وفي رأيه أن السبب يرجع إلى أننا وجدنا أنفسنا "في اتصالنا بالحضارات الأخرى وجهاً لوجه أمام خضم وافر من القيم والمفاهيم نشأت في بيئاتها ومقدمة إلينا للاختيار والمفاضلة بينها.. وهذا ما أحدث أزمة حرجة للمفكر العربي، فهو في معرض الاختيار والمفاضلة لا ينتبه إلى حقيقة خطيرة أشد خطورة، هي واقع المجتمعات العربية نفسها، وفي أي مرحلة من المراحل الحضارية تعيش".

ثم ينتقل الكاتب في مقالته الرئيسية، عن "إنسانية الشعر العربي"، إلى طرح فروضه الأساسية ومبدأها الأساسي أن إنسانية الشعر شرطها تحرّر الشاعر تحرراً "ذاتياً كاملاً يسمح له بإدراك الجوانب الخفية والعميقة من الحياة". وفي ضوء هذا الشرط، يقرأ المراحل التي مرّ بها الشاعر العربي منذ العصر المسمّى بالجاهلي وصولاً إلى العصور الحديثة، فيرى أن الشاعر العربي لم يُتَح له يوماً أن يتحرّر التحرّر المنشود، وهذا يُرد إلى أسباب خطيرة ترتبط بماضيه البعيد وحاضره.

من نفس القسم الثقافي