الثقافي
أتول غواندي.. الاحتياجات العميقة لمن سيغادروننا
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 28 جولية 2019
في كتابه "لأنَّ الإنسان فانٍ، الطبّ وماله قيمة في نهاية المطاف"، يقف الطبيب والجرّاح الأميركي من أصل هندي أتول غواندي عند قضايا الطب من منظور غير علمي أو تقني، إذ يقاربه بشيء من التفكير النقدي، ويضيء اللحظات التي يقف أمامها أمهر الجراحين في عجز كامل أمام قوة الفناء وانهدام الجسد الإنساني بالتدريج على مرأى من العلم والطب وسلطتهما.
الكتاب صدر بالعربية مؤخراً ضمن سلسلة "عالم المعرفة"، وقد نقله إلى العربية المترجم عبد اللطيف الخياط، وفيه يتطرّق غواندي إلى عدة ثيمات تختصر عناوينها علاقة الجسد بالمرض، فبعد المقدمة يأتي الكتاب في ثمانية فصول هي "الذات المستقلة"، و"الأشياء تتداعى"، و"الاعتماد"، و"المساعدة"، و"حياة أفضل"، و"التخلي"، و"المحادثة الصعبة"، و"الشجاعة".من الأفكار التي يناقشها غواندي المجازفة والمخاطرة، ويتناول خصوصاً مسألة رعاية المسنين وتدبير التقدّم في العمر. ويضرب مثالاً كيف أننا نتيح للأطفال المخاطرة أكثر من البالغين، الذين يُفترض أنهم كبار السن بما يكفي لاتخاذ خياراتهم الخاصة، فما علاقة الجسد الإنساني بذلك؟ وكيف يفسد هاجس المخاطرة حياة أكثر الفئات هشاشة في مجتمعاتنا، كبار السن، في السنوات التي يفترض أن تكون خياراتهم موضع تقدير، حتى وإن كانت ستقصر أعمارهم.
في الثقافة الغربية، ثمة بعض التابوهات عند الحديث عن الموت، تابوهات تكوّنت ما بعد مفاهيم التنوير والتقدّم العلمي والإيمان بالعلم والرغبة في السيطرة، بما في ذلك السيطرة على البيولوجيا البشرية، من هنا يرى غواندي أن الطب المعاصر يتجاهل الاحتياجات العميقة لمن يحتضرون، وبدلاً من التجاوب معها، يدفعهم إلى الإقامات الطويلة وغير المجدية في وحدات العناية المركزة.
يبني الطبيب خريطة من الأفكار التي تتعلق بالموت، من خلال تجاربه مع مرضاه وعائلته وأثناء رحلاته بين مستشفيات مختلفة، وفي أمكان متعددة، ويحاول أن يبني نهجاً يمكّن الطب والأطباء من جعل تجربة استقبال الموت والاستعداد له أكثر فهماً وتقبلاً عند مرضاه.
وفي مقارنة بين الاحتضار والموت في ثقافة الحداثة الغربية وأخرى تعتبر تقليدية كالهندية، يصف الكاتب كيف أن المعيار الذي يفيد بأن معدلات عمر الإنسان صارت أطول في المجتمعات المتطورة، لا يلغي وجوداً أكبر للأمراض المزمنة والانخفاض الحتمي في الحيوية. كما يعتبر أن أرقام طول الحياة مضخّمة لأنه يجري تمديد فترات الاحتضار عن طريق الدعم الطبي والأجهزة.
وفي تناوله للرعاية الطبية، والنظام الصحي في الولايات المتحدة، يلفت إلى أنه ومع زيادة معدلات العمر هذه، زاد عدد الكبار في السن، وفي المقابل قل عدد الأطباء المتخصّصين في أمراض الشيخوخة، فهم الأقل أجراً لذلك يصبح الإقبال على امتهان هذا النوع من الطب والرعاية الصحية أقل مما جعل البرامج التدريبية في هذا التخصص أقل أيضاً. أما دور المسنين فمصمّمة للتحكم بهذه الفئة وليس للعناية بها.
يتوقف الكاتب أيضاً عند المرضى الشباب الذين يواجهون الموت، ويروي كيف يجري تجريب العديد من العلاجات دون فائدة، ورغم أن المأساة ليست جديدة ومكررة، يحاول الأطباء تكرار الإجراءات التي تطيل التراجيديا فقط.
في صفحات الكتاب الأخيرة، يروي غواندي قصة مرض والده بورم في العمود الفقري، وتجربته كجراح وابن، فيجد الأب يتنقل في حالة من العجز والاعتماد عليه كابن، وليس كطبيب. ويغدو هو الابن القلق وليس جرّاح بوسطن الشهير، ليكتشف أن الطبيب يتواصل بشكل أكثر فاعلية عندما يتخلى عن موقف المراقب السريري المنفصل. يحقق الطبيب الابن لوالده السلام في أيامه الأخيرة بين عائلته إلى أن يلفظ أنفاسه محاطاً بمن يحب وليس على سرير أبيض بين أجهزة باردة، وتسافر العائلة إلى الهند لنشر رماده على نهر الغانج.