الثقافي
الدقلة في عراجينها.. موسوعة الجريد وعوالمه
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 27 جولية 2019
"الدِّقْلة في عَراجينها" للكاتب التونسي الراحل البشير خْرَيِّف (1917-1983) من عَتيق الروايات التونسية التي صَنعت من الجنوب التونسي موضوعاً للسّرد، ومن سداه نسجَ المؤلف أحداثَ كونه التخييلي، فاستعاد منطقة "الجريد" مشكِّلاً من تضاريسها وغاباتها وواحاتها لُحمة الحكاية التي ترامت على نحو 350 صفحةً.
حكاية انطلقت أحداثُها، وهي من صميم الخيال وسِحر الكلام، في عيد "المايّو"، الذي يصادف الرابعَ عشرَ من شهر أيار حيث يتقابل تقويمٌ فلاحي لدى مزارعي النخيل بذكرى وطنيّة لدى المستعمِر الفرنسي الذي كان حينَها جاثماً على ثروات الشعب التونسي وحقوله ومَناجمه. في ذلك التاريخ، كان عمر "العطراء"، إحدى الشخوص الرئيسة، ثماني سنوات. وتوالت بعدها الوقائع تُساير قيضَ الصيف ورطوبة الخريف ومنه برد الشتاء وتهلل الربيع، دائرةً مع الفصول. وفي نهاية القصّ، تبلغ العطراء ثمانيةً وعشرين عاماً، فيكون الامتدادُ الزمني لعَقديْن.
وإليها يضاف زمن تقريبيٌّ، أومأ إليه الراوي بقوله: "وبعد أشهر" من عودة العطراء من صفاقس حيث كانت تتداوى وحيث أقام الحفناوي وتزوّج بامرأة ثانية أنجبت له ولداً. ثم ما لبثت العطراء أن مرضت وتوفيت بعد سنة. وهكذا يُقدّر الزمن الحَدثي في الرواية بواحد وعشرين عاماً، بما فيه من ثغرات وتعرّجات رجوعاً إلى الماضي أو استشرافاً للمستقبل.
الإشارة التاريخية الوحيدة التي أرسلها الراوي هي إضراب العمال التونسيين في منجم الفسفاط بمدينة المتلوي سنة 1928، مما يقوّي وهم القارئ بأنّ وقائع التاريخ المباطنة للرواية جرت ما بين الحربيْن العالميتيْن حيث شهدت تونس، كسائر المستعمَرات، أعنف هزّات التحوّل السياسي والاجتماعي، بعد أن توغّل النموذج الفرنسي في النسيج التقليدي واستباحَ ثرواته، ففغرت الأرض فاها على المجهول.
تعالج هذه الرواية التي سُبكت سنة 1968، أحداثاً تاريخية ماضية على زمن الكتابة تلاعباً بخطيّة التاريخ وتفتيتاً لصلابة تقدّمه. فكانت تزاوج بين آليتَيْ الاسترجاع والاستشراف للواقع الاجتماعي التونسي، مع التركيز على فَترة اختزنت في أحشائها بذرات الانتقال الدرامي من النمط الإقطاعي-الأبوي إلى النمط الليبرالي، ومن سيطرة القيم الدينية، التي تجسّدها شخصية الإمام، إلى شيوع التسيّب، يأساً أو مجوناً، وهو تحوّل تلخصه آخر جملة في الرواية: "وعندما سكتَ آخرُ سكِّير وطلع المؤذّن يَتَهَجد، ماتت".
من جهة التوزيع المكاني، تنتشر الوقائع، وهي من صنائع الابتكار، على بساط جغرافي مَعلوم: "بلاد الجريد". اسمٌ شاع في كتب الرحلة وسجلات الإدارة إشارةً إلى منطقة الجنوب الغربي لتونس، وإيحاءً إلى ما يميزها من استقلالية، فهي بلادٌ في بلاد. واشتهارها بزراعة النخيل، وهو فَخارُها، ودَمارُها حين تجفّ السماء أو تفيض أمطارُها. تنتقل الشخوص من نَفطة، مدينة المَكي والعطراء، نحو المتلوي (80 كيلومتراً شمالاً)، وبجوارها قرية فليب طوما حيث مصنع الفسفاط، ثم إلى السجن وصفاقس. وفي نهاية المطاف، يعودون إلى نقطة البداية: نفطة. وهذا أيضاً من عبث الرقم على المسافات والإشارة إلى الفضاءات خلطاً بين امتدادها في الجغرافيا وإيحائها بالدلالات.
عجبٌ تركيبةُ النص ولـمْحة ابتكارٍ. مستوحاةٌ، بعفو البديهة، من صورة أقناء النخلة وأعْذاقِها حين تتداخل. تشكلت أجزاؤُه من ثلاثة فصولٍ سمّاها المؤلف "عراجين"، ولها أسنَد أسماء شخوصه: ديجة، المكي والعطراء... وفي كل عُرجون عددٌ من الشماريخ، هي منه بمثابة الفصول الفرعية، وفي الحياة مَراحل وسنون. ولا يُعرف في تقسيم الروايات الحديثة ما يشبه هذا الترتيب، رمزاً للنخلة التي تتدلى منها الأعذاق والشماريخ محملة بأطايب الرُّطَب والتمور.
فإن بَحثنا عن نظير لها، في الأدب الأجنبي، سنقابلها برواية "موبي ديك" للكاتب الأميركي هرمان ملفيل الذي اشتغل على عالم صيادي الحيتان وأورد في نصّه مصطلحاتهم بما تتضمّنه من تفاصيل التفاصيل، حتى قيل إنّ قراءة روايته تغني عن موسوعة في علم البحار. وقياساً عليه، يمكن القول إن "الدقلة في عراجينها" تغني عن قراءة موسوعة في زراعة النخيل.