الثقافي
"محاكمات الفكر والإبداع": معالجة قانونية
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 26 جولية 2019
ليس نادراً في مختلف الثقافات أن يجد المثقّفون والمبدعون أنفسهم متّهَمين، سواء لأسباب معرفية أو قِيمية أو سياسية، وقد تتداخل جميع هذه الجوانب مع بعضها. وقد تتحوّل هذه المحاكمات إلى منعرجات في ثقافة ما؛ حيث يستدل بها البعض على عدالة قضية أو تكون مناسبة لاختبار صمود الأفكار وهي تتساجل.
يعود كتاب "محاكمات الفكر والإبداع"، الصادر مؤخراً عن "دار الجنوب" في تونس، إلى عدد من محاكمات المثقّفين، من سقراط في العصور القديمة إلى صادق جلال العظم منذ عقود قليلة. العمل من تأليف الكاتب التونسي المنوبي زنّود، والذي يجمع في هذا العمل بين صفتين؛ أولها كونه رجل قانون، وهو بذلك يقارب المسألة من منظور يعتمد على الخبرة المهنية، ومن جهة أخرى هو رجل أدب؛ حيث أصدر أعمالاً سردية مثل "القاضي والبغي" و"الجنون" و"اعترافات عادل الوزان".
من زاوية المحاكمات، يمكن أن نعتبر العمل قراءة جديدة في علاقة المثقف بالسلطة، وهي علاقة تُدرَس عادة من زاوية الميدان الثقافي، وهنا يفيد زنّود من كونه رجل قانون لشحن عمله بأبعاد أخرى، حيث يضيء في مناسبات كثيرة خلفيات قانونية ويستشهد بوثائق أو يقرأ في النصوص التشريعية وكيفية تأويلها وتطويعها في محاكمات الفكر والإبداع.
ينتقل المؤلّف بين عصور وبلدان شتّى، من اليونان القديمة مع سقراط إلى الحلاج في العصر العباسي، وصولاً إلى محاكمات عربية في العصر الحديث؛ مثل طه حسين ونصر حامد أبو زيد وعادل إمام وصادق جلال العظم، وفي الأثناء يُعرّج على محاكمات وقعت في فرنسا في القرن التاسع عشر، مثلما حدث مع الشاعر شارل بودلير والروائي غوستاف فلوبير.
مع كلّ حالة يقدّمها، يعود زنّود إلى الأعمال التي تحوّلت إلى ذريعة للاتهام، من كتاب "الشعر الجاهلي" إلى أفلام عادل إمام الكوميدية التي تناولت ظاهرة التشدّد الديني، ثم ينتقل إلى قراءة في الأحكام الصادرة محلّلاً إياها، فمثلاً عند تناوله قضية نصر حامد أبوزيد، يعود إلى مفهوم الردّة ويبيّن قواعد إثباتها.
يشير المؤلف في مقدّمة كتابه إلى أن منطلق عمله كان محاضرة طُلبت منه في مؤسسة "دار المحامي" سنة 2013، وكانت تلك الفترة قد عرفت تضييقات قانونية على الإبداع من أبرزها محاكمة شبّان من مجموعات الغرافيتي التي انتشرت بعد 2011. لا تحضر مثل هذه المحاكمات ضمن متن العمل، ولعلها كانت تثريه خصوصاً أن مفهوم المحاكمات يمكن أن يتجاوز معناها القانوني إلى أطر أوسع، فقد يمارس المجتمع سلطته على الفكر والإبداع أكثر مما تفعله الدولة وأجهزتها.